|
الشعر العربي المعاصر في اليمن*
أ ـ د. عبدالعزيز المقالح
أزعم أنني قرأت أهم التجارب الشعرية الصادرة في الوطن العربي ابتداءً من مطلع هذا القرن حتى الآن. وأنني انغمست -على مدى أربعين عاماً- في عالم الشعر دراسة وتدريساً ونقداً, يستوي في ذلك الشعر الذي أبدعته المراكز الرائدة في مصر والشام والعراق , أو الشعر الذي صدر فيما يسمى بالهوامش والأطراف من الوطن العربي الكبير . وهذا الزعم يعطيني بعض الحق في التأكيد على حقيقة لا أظنها غائبة عن الأذهان , وهي أن البدايات الشعرية التي ظهرت متتابعة في الهوامش والأطراف تكاد تكون متشابهة مع فارق وحيد يتمثل في أي هذه الأطراف كان الأسبق بعقد أو عقدين من الزمن, وفيما عدا ذلك فقد تشابهت المؤثرات والإرهاصات , وكانت النتيجة الطبيعية, هذا الشعر الذي يتشابه في مراحل تطوره كما يتشابه في صياغاته وهمومه ابتداء من محاكاته لرواد الكلاسيكية الجديدة إلى اقترابه من المؤثر الرومانتيكي, وحتى اندفاعه في الحركات التجديدية التي أخذت في الفترة الأخيرة صياغات وأنماطا تعبيرية خارجة على تقنيات الشعر السائدة.
ومن الحقائق التي لاخلاف حولها القول أن ثمة شعوراًمشتركاً لدى غالبية المبدعين والدارسين العرب, بضرورة النظر إلى الشعر العربي المنتج في الأقطار العربية كافة بوصفه صوت الوجدان القومي المشترك وأن لاتدفع التشنجات الإقليمية المستترة أو الظاهرة إلى تصنيفه من منطلق تفتيتي إقليمي يكرس حالات التجزئة ويقاوم محاولات الصهر والتفاعل بين أبناء الأمة الواحدة التي تظافرت عوامل خارجية وداخلية عديدة على تعميق مظاهر الاختلاف والانكفاء فيما بين أقطارها علماً بأن الخوض في الماهية المشتركة للشعر العربي الحديث لا يلغي الخصوصات الفردية للشعراء الموهوبين في الأطراف أو في المراكز على حد سواء ولايضع أي عائق يذكر في سبيل الذين يحلمون بأن تكون لهم أصواتهم الخاصة أو الذين يطمحون إلى تأسيس التجارب المغايرة للسائد والشائع من الكتابات الشعرية, لأن تلك الأحلام تشكل ضرباً من الطموح المشروع للتميز وإن تحققت فلن تضيع قصائدهم الضاربة في فضاء الجديد والأجد, خارج التجربة الشاملة التي تنتظم الشعر العربي القديم منه والحديث.
لم يكن الشعر في اليمن استثناء من هذه القاعدة ربما كان أكثر التزاما وتمثلاً لمؤثراتها وهذا ما تطمح في الإشارة إليه هذه الدراسة التي تحاول أن تختزل في أقل مساحة ممكنة ملامح التغيير الذي لحق بالقصيدة في هذه البلاد على مدى خمسة عقود تبدأ من مطلع الأربعينيات حيث كان التغيير هدفاً مشتركاً لدى كل المبدعين الحقيقيين الذين خنقتهم التراكمات الاجتماعية والفكرية والنفسية الناتجة عن أزمنة الركود والانحطاط وقبل البدء تجدر الإشارة إلى أنها مهمة شاقة وعسيرة تلك التي تجعلنا نحاول أن نختزل خمسين عاماً من حركة الشعر في اليمن في دراسة ضيقة كهذه كما تجدر الاشارة ايضاً إلى أن الشعر في هذه البلاد لم ينل ـ حتى بعد الازدهار النسبي الذي حققه في العشرين سنة الأخيرة ـ سوى قدر ضئيل من اهتمام النقاد والدارسين الذين كانوا ومايزالون في شغل عن شعر الأطراف والهوامش الجغرافية في الوطن العربي بما تطرحه المراكز التي حظيت بالاهتمام كله وربما أفاضت على بعض المبدعين الذين سكنوا الأطراف بقدر محدود من الاهتمام, كما حدث ـ بالنسبة لليمن ـ لشاعر ومبدع كبير هو المرحوم الأستاذ علي أحمد باكثير بعد أن تفلت من جاذبية التخلف ونجا من عقوبة الاقصاء.
وتقدم لنا المراجع المتوفرة بأقلام مجموعة من الباحثين الذين يمثلون أطرافاً واتجاهات شتى يمنية وعربية وأجنبية صورة مرعبة عن العزلة التي شهدتها اليمن في النصف الأول من القرن العشرين ـ وبعد رحيل الأتراك بخاصة ـ وهي عزلة صعبة التصور, جعلت اليمنيين يشعرون بالعجز عند الحديث عنها إلى أشقائهم حتى أولئك الذين شاركوهم نوعاً من العزلة في بداية العصر الحديث. ومن حق أي عربي, الآن أن يضيق عن تصور الواقع المرير الذي عانت منه هذه البلاد وأهلها تحت الاحتلال والاستبداد وما ارتبط من حالات التضليل والتجهيل.
في قطر عربي هذا شأنه مع العصر ومؤثراته كان لابد من أن يمضي الجانب الأكبر من النصف الأول للقرن العشرين وهو في منأى عن مجمل التطورات العميقة التي انعكست على الواقع الأدبي والشعري في بقية الأقطار العربية وتمخضت عنها اتجاهات وروافد لمدارس ومذاهب جديدة. وهذه الإشارات ليست محض تأملات تأريخية وانما هي اختزال منقوص يستمد من تجربة الشعراء اليمنيين أنفسهم, الذين امتلأت قصائدهم بأمرّ وأوجع ألوان الشكوى كما امتلأت كتاباتهم النثرية بالبوح الصارخ الحزين. يقول الشهيد محمد محمود الزبيري في مقدمة ديوانه الصادر في مطلع الستينيات (إذا كانت الأمور بعد عشرين عاما تبدو لنا واضحة جلية, ويبدو فيها وجه الحق بيَّنا ساطعاً.فهي لم تكن كذلك من قبل... كان كل مافي اليمن يبدو مشوشاً غامضاً مظلماً بل عالماً من الألغاز والطلاسم والمتاهات. وكان إحساسنا المزدوج المضطرب بين العالم القديم والجديد, وكانت حيرتنا بين طقوس العبودية التي يعيشها جيلنا يومئذ وبين مثل العصر الحديث الذي تسللنا إليه مبهورين ذاهلين) (1) وهذا الشاعر الشهيد كان أول من رأى وعمل على كسر عزلة الشعر عن الحياة وربط مسيرة القصيدة بمسيرة الإنسان ونضاله في اليمن, وهو الذي وضع الشعراء اليمنيين منذ بداية الأربعينيات بين طريقين لا ثالث لهما: (فإما أن نرضخ , وندفن رؤوسنا في المقبرة الموحشة التي دفن فيها الشعب وندخل فيما دخل فيه الأكثرون.. فنأكل الجيف ونمتص الدماء ونعيش كما تعيش الدود في القبر.. أو نثور)(2), وقداختار واختار معه كل الشعراء الحقيقيين الطريق الثاني طريق الثورة. وكانت البداية هذا الحديث المضطرب القلق, حديث الشاعر إلى ضميره:
مت في ضلوعك ياضمير _________________________
|
وادفن حياتك في القبور _________________________
|
اياك والإحساس فالـ _________________________
|
دنيا العريضة للصخور _________________________
|
لاتطمئن إلى العدا _________________________
|
لة فهْي بهتان وزور _________________________
|
لاتنبسنَّ إلى الثقا _________________________
|
فة فهْي داعية الثبور _________________________
|
حطم دماغك إنه _________________________
|
شرّ برأسك مستطير _________________________
|
مزق فؤادك إنه _________________________
|
يؤذي الخليفة والأمير _________________________
|
لا تنطقن الحق فهْـ _________________________
|
وَ خرافة القصر الغرير _________________________
|
لا تنتصر للشعب إنْ _________________________
|
نَ الشعب مخلوق حقير(3) _________________________
|
لكن ضمير الشاعر لم يستجب ـ كما سوف نرى ـ لذلك النداء الساخر وظل حيا صارخاً يعلن تحرره في السجن كما في المنفى, واستطاع شعره أن يشكل أول محطة للممارسات المغيرة إلى المعاصرة في الشعر الحديث في اليمن مع محافظته الصارمة على نظام القصيدة (البيتية) شأن شوقي وحافظ والرصافي وأضرابهم من رواد الكلاسيكية الجديدة. ويلاحظ أن القصيدة التي اجتزأنا منها هذه الأبيات قد كانت من بدايات قصائده, وفي كثير من أبياتها اتكاء مباشر على قصيدة ذائعة الصيت للشاعر معروف الرصافي:(ناموا ولا تستيقظوا مافاز الا النوّم). ومن الإشارات السابقة التي أوردها الشاعر في سياق وصفه للظروف السائدة عند بداية كتاباته للشعر تبين أن تلك المحاولات قد تزامنت مع بدايات الحرب العالمية الثانية وبعد رحلته إلى مصر التي لم تدم أكثر من عامين, وهي فترة كافية لدخوله في دائرة الزمن الجديد.
قبل الحرب العالمية الثانية إذن لم يكن الشعر في اليمن شيئاً مذكورا. وكان السائد منه لايخرج عن النظم الفاتر الذي يكتبه الحكام والقضاة وشعراء القصر ممن يقلدون شعراء الانحطاط ويواصلون السير على نهجهم في كتابة التهاني والمراثي والتأريخ للمواليد والوقائع المهمة, وباستثناء بعض الومضات القليلة التي لاتخلو من التقليد فقد كان الشعر في اليمن, حتى أواخر الثلاثينات صورة أمينة للاجترار وصدى للبيئة الراكدة وما تعكسه من معطيات التخلف والجمود.
والإشارة إلى الحرب العالمية الثانية في هذا السياق بوصفها انعطافة تاريخية يختلف ماقبلها عما بعدها لا تعني أن اليمن قد شاركت في هذه الحرب من قريب أو بعيد, أو أنها قد أفادت من المؤثرات التي تضعها الأحداث والوقائع الكبيرة, فقد كانت اليمن خلال سنوات تلك الحرب غارقة ـ كعادتها ـ في العزلة المرعبة التي تلف بظلامها كل شبر من الأرض اليمنية لكن الفضيلة الوحيدة للحرب أنها جعلت الاحتلال في جنوب البلاد, يتجه إلى كسب النخبة القليلة ويسمح بإصدار الصحف وإنشاء الجمعيات, الأمر الذي ساعد على تكون بدايات الوعي والاقتراب من مصر والسودان (كانت مصر يومئذ تحت الهيمنة البريطانية, وكان السودان مستعمرة تحت التاج البريطاني) وماأتاحه ذلك الاقتراب المحدود, من ابتعاث عدد من الطلاب إلى هذين القطرين الشقيقين, فضلاً عما يترتب على ذلك من بداية تسرب الكتب الأدبية ودواوين الشعراء المعاصرين في مصر, وتمثل نماذج من بواكير النهضة الأدبية والفكرية التي شهدتها تلك البلاد ابتداء من النصف الأول للقرن التاسع عشر. كان كل من في اليمن ـ رغم عنف التقاليد ـ ظامئاً إلى التغيير. وكان التشطير الذي عانى منه اليمنيون طويلا لا يمنع من تنقل المواطنين بين الشطرين بحرية وبلا بطاقات, الأمر الذي جعل من عدن نافذة ضرورية لاستقبال رياح التغيير على مستوى اليمن الطبيعية من أقصى الجنوب إلى أقصى الشمال. ومن هنا فقد شهدت الأربعينيات بداية الحركة الشعرية الحديثة على نطاق ضيق, وبداية الحركة السياسية على نطاق أضيق, وقد أسفرت تلك البدايات بعد سنوات قليلة ـ على صعيد الواقع السياسي ـ عن قيام الثورة الدستورية في فبراير 1948م, وهي الثورة التي لم يكتب لها البقاء لأسباب وعوامل عديدة ليس هذا مكان شرحها. وقد تصدر الشعراء قائمة الثائرين, وكان صوت الشعر حاضراً في أشد اللحظات عصفاً كما كان صوت التأسيس الأول للتغيير والمواجهة.
سجل مكانك في التاريخ ياقلم _________________________
|
فها هنا تبعث الأجيال والأممُ _________________________
|
هنا القلوب الأبيَّات التي اتحدت _________________________
|
هنا الحنان, هناالقربى, هنا الرحم _________________________
|
هنا الشريعة من مشكاتها لمعت _________________________
|
هنا العدالة والأخلاق والشيم _________________________
|
هنا العروبة في أبطالها وثبت _________________________
|
هنا الإباء, هنا العليا, هنا الشمم _________________________
|
هنا الكواكب, كانت في مقابرها _________________________
|
واليوم تشرق للدنيا وتبتسم _________________________
|
هنا الصوارم, في الأغماد ثائرة _________________________
|
هنا الضياغم في الغابات تصطدم _________________________
|
هنا البراكين هبت من مضاجعها _________________________
|
تطغى وتكتسح الطاغي وتلتهم _________________________
|
لسنا الأُلى أيقظوها من مراقدها _________________________
|
الله أيقظها والسخط والألم _________________________
|
شعب تفلّت من أغلال قاهره _________________________
|
حراً فأجفل منه الظُلْم والظُلَم _________________________
|
نبا عن السجن ثم ارتد يهدمه _________________________
|
كي لا تكبل فيه بعده قدم _________________________
|
قد طالما عذبوه وهو مصطبر _________________________
|
وشد ما ظلموه وهو محتكم _________________________
|
أذاب مهجته فيهم, فما اعترفوا _________________________
|
بها ولا قنعوا منها, ولاسئموا _________________________
|
إن القيود التي كانت على قدمي _________________________
|
غدت سهاماً من السجان تنتقم _________________________
|
إن الأنين الذي كنا نردده _________________________
|
سراً, غدا صيحة تصغي لها الأُمم _________________________
|
والحق يبدأ في آهات مكتئب _________________________
|
وينتهي بزئير ملؤه نقم(4) _________________________
|
ما بين بداية هذا الجزء من القصيدة, ونهايته تكمن التجربة الشعرية النضالية لجيل من الشعراء الوطنيين في اليمن. وربما استطاعت الأبيات الثلاثة الأخيرة منها أن توجز رحلة الشعر والنضال السياسي, وزمن القصيدة يعود إلى عام1943 م.
|
|