خطة المعجم

معجم البابطين لشعراء العربية في القرنين التاسع عشر والعشرين

المنهج والإجـــــــراءات
(1)
اهتمام مؤسسة جائزة عبد العزيز سعود البابطين للإبداع الشعري بالتوثيق العلمي للشعر العربي عبر عصوره التاريخية اهتمام عضوي، ونقصد «بعضوية الاهتمام» أنه ينبع من صميم النظام الأساس للجائزة، الذي ينصّ على أن من أهداف المؤسسة «إصدار معجم البابطين للشعراء العرب والتعريف بإنتاجهم»، وهو عمل تمثلت باكورته في «معجم البابطين للشعراء العرب المعاصرين»، الذي صدرت منه حتى الآن (سنة 2008) طبعتان، ضمت كلتاهما بين دفتيها عيون الشعر العربي المعاصر، سيرة وإبداعًا.
وبعد هذه الباكورة والاستقبال الكريم الذي حظيت به لدى جمهرة المثقفين بعامة، ومتذوقي الشعر بخاصة، لم يكن ممكنًا للمؤسسة أن تتوقف عن متابعة ما أعلنت نيتها منذ البداية على المضي فيه، ومن ثمّ لم يلبث مجلس أمناء المؤسسة أن أقرّ الاقتراح بتخصيص معجم يضم شعراء العربية في القرنين التاسع عشر والعشرين، سيرة وإبداعًا، وقد حدا إلى تحديد هذا الإطار الزمني للمعجم الجديد، أمران:
أولهما: أن شقيقه السابق، معجم البابطين للشعراء العرب المعاصرين، قد استغرق بالضرورة كل من كان حيّاً من الشعراء الذين عاصروا الإعداد لذلك المعجم، بحكم قيام الشاعر بكتابة المعلومات بنفسه عن نفسه، وتزويده المؤسسة بنماذج شعرية خطها بيديه. وهكذا كانت الخطوة التالية أن يتم الانتقال إلى سابقيهم ممن لم يدخلوا في الإطار «الحياتي» الذي التزم به معجم المعاصرين.
ثانيهما: كانت ثمة أطروحتان في تناول سير هؤلاء السابقين وإنتاجهم، أن يُكتفَى بشعراء كل قرن على حدة، أو أن تمتد الرقعة الزمنية على مساحة قرنين دفعة واحدة، وقد رُئي أن قرنًا واحدًا من الشعر ربما لم يكن ليلبي طموح المؤسسة إلى تحرير وثيقة كبرى تبرز ثراء ورحابة خريطة الشعر العربي الحديث، فضلاً على أن هذا القرن سوف يكون - بطبيعة الحال - هو القرن الأقرب إلى وجودنا الأدبي الراهن، وهو القرن العشرون، وقد اندرج كثير من شعراء هذا القرن في معجم المعاصرين، وهكذا كان الخيار المنطقي الباقي هو ترحيب مساحة الزمن الذي يستغرقه المعجم الجديد كي تتسع للقرنين التاسع عشر والعشرين، وقد كان من محاسن الوقائع أن هذين القرنين يتزامنان تقريبًا مع مطالع النهضة الأدبية العربية، التي لاحت تباشيرها منذ بدايات القرن التاسع عشر، وهكذا نراهما معًا يشكلان مدماكا عضويّاً متكاملاً في معمار الشعر العربي، أحرى أن ينظر إلىه باعتباره كتلة واحدة، فضلاً على أن هذه الفترة - بالذات - قد اتهمت - إن حقّاً وإن زعمًا - بأنها فترة الظلام، وحقبة السقوط الإبداعي، وهيمنة ما أسمي بالشعر العروضي، وهكذا كان توثيق التاريخ الإبداعي لها ضربًا من رد الاعتبار، وسعيًا لكشف وجه الحقيقة الغائبة وسط ركام الأحكام الجاهزة والمقولات التي لا تخلو - أحيانًا - من مصادرة.
ورغم أن الحيز الزمني لهذا المعجم لا يتجاوز - في إطاره العام - مقدار قرنين، وهي فترة ليست طويلة في أعمار آداب الأمم، فإنه بحكم ما حفل به من تطورات ثقافية وفنية يعدل قرونًا مما سبقه من مراحل في مسيرة الشعر العربي، يكفي في هذا المقام أن نذكر أنه أفرز من الشعراء ممن تضمهم دفتا هذا المعجم من يناهز عددهم ثمانية آلاف شاعر أو يقلّون قليلاً، بمقياس مفهوم الشعر في المناخ الزمني الذي ينتسب إلىه كل شاعر، وهذا بعد اطّراح مئات الأسماء ممن لم تنطبق عليهم الشروط الأولية التي استنتها الهيئة الاستشارية ومكتب التحرير، والتي تتمثل في: السلامة اللغوية، والصحة الإيقاعية، والمائية الشعرية، وهي شروط كانت حرية باستبعاد كثير ممن كانوا أحرياء بأن يرتفعوا بعدد الشعراء إلى أربى مما وصل إلىه.
وصحيح أن إيقاع التطور في بدايات زمن هذا المعجم لم يكن بنفس السرعة التي شهدتها أواخره، ولكن ذلك لم يكن عائدًا إلى غياب الإرهاصات الأساسية للنهضة، بقدر ما كان عائدًا إلى أن النهضة كمحصلة قيمية تقتضي وعيًا، والوعي يقتضي إدراكا، وهذا بدوره يحتاج إلى بعض الوقت كي ينتج أثره في البنية الفكرية بمستوياتها المختلفة، بما فيها المستوى الفني.
ومن المرجح أن يكون أبرز هذه الإرهاصات الأساسية التي حددت بدايات النهضة هو ازدياد تفاعل العلاقات الثقافية بين الغرب الأوروبي والشرق العربي، وهو التفاعل الذي جرى العرف الثقافي على اعتبار الحملة الفرنسية من أهم مظاهره، وصحيح أن الدافع إلى هذه الحملة كان غير مشروع بطبيعته، ولكن الصحيح - كذلك - أنها لم تخل من أثر في وجدان الشعب العربي، وإن يكن أثرًا غير مباشر وغير مقصود، يكفيك أنها أظهرت العرب على مدى التقدم العلمي والثقافي الذي بلغه الأوروبيون، ووضعت أمامهم نموذجًا للتطور حاولوا احتذاءه في ما بعد، وأثارت فيهم مكامن الدهشة، والدهشة أولى درجات الوعي، والوعي أول درجات التغيير.
إلى ذلك الوعي الإنساني العام يضاف وعي معرفي تمثل في إدراك قيمة العلوم والمعارف التي ثبت للشرق العربي من واقع الاحتكاك المباشر أنها سر تقدم الغرب وقوته، ومن ثم كان بدء الاهتمام بالتعليم على تعدد أصعدته، وبالبعثات العلمية التي طفقت ترسل إلى أوروبا منذ العقود الأولى في القرن التاسع عشر، وكان لها فضل إظهار العرب على أنماط من التفكير والحياة الأوروبيين، وهو ما ترى نماذج من آثاره فيما كتبه رفاعة الطهطاوي تحت عنوان «تخليص الإبريز في تلخيص باريز» أو ما كتبه علي مبارك تحت عنوان « علم الدين»، وليس مصادفة أن يكون أولهما واحدًا من الرعيل الأول الذي بعث رعشة التجديد في أوصال الشعر العربي في القرن التاسع عشر، كما أن دورهما في التأسيس المعرفي لفجر النهضة لم يعدم جهد المؤازرة - وأحيانًا جهد المبادرة - من نظرائهما في أصقاع أخرى من العالم العربي آنذاك، ومنذا الذي يستطيع أن يغفل تأثير خيرالدين التونسي في كتابه «أقوم المسالك في معرفة الممالك»، وأحمد فارس الشدياق، وما سطّره في كتابه «الساق على الساق فيما هو الفارياق»، أو في كتابه «كشف المخبّا في فنون أوروبا»؟ لقد كانت جهود هؤلاء جميعًا، مهما تنوعت بهم منابت النشأة والوجود، أصواتًا متناغمة في لحن النهضة البازغة!
ناهيك عن الصحافة الأدبية وإسهامها الملحوظ في حركة الترجمة، وما أفضى إليه ذلك من توفير المهاد الأولى لحركة الإحياء في الشعر العربي مع ضحى القرن التاسع عشر، وقد كان الشام - بمفهومه الرحب - سبّاقًا في هذا المضمار، بحكم الانفتاح على الثقافات الغربية، ففي أواسط القرن التاسع عشر تأسست الجامعة الأمريكية في بيروت (1866م) وجامعة القديس يوسف (1875م)، مما ساعد على انتشار اللغات الأجنبية، وأتاح لكثير من الشعراء الاطلاع على الشعر الأوروبي والانفعال به قراءة وترجمة ونقدًا، وإذا كانت حركة الترجمة قد اتجهت في البداية اتجاهًا علميّاً فإنها ما لبثت أن امتدت إلى كثير من مناطق الإبداع الإنساني، وتوفر كثير منها على ترجمة روائع الشعر الغربي في مختلف لغاته ومذاهبه ترجمة تقارب الكمال، وتجمع إلى الصياغة الأدبية المشرقة أمانة الوفاء بالنص واستلهام روحه بما لا يجافي الدقة المنهجية، وإذا أمكن أن نشير في هذا المقام إلى نماذج من الصحافة الأدبية في مصر كمجلتي «المقتطف» و«الرسالة» فإننا لا نفتقد نظائر لهما في بلاد الشام كمجلتي «المكشوف» و«الأديب» اللتين حملتا عبء تقديم المذاهب الأدبية الأوروبية إلى القارئ العربي.
إن هذه اللوحة العجلى التي رسمناها للشروط الأولية التي مهَّدت لبدايات الحيز الزمني الذي احتاز هذا المعجم، تعني أن هذه الشروط قد شرعت في الاختمار منذ مطالع القرن التاسع عشر، منطلق البداية لمادة هذا المعجم، ولكنها تعني - كذلك - أن إيقاع هذا الاختمار قد بدأ وئيدًا، يتفاعل في واعية المبدعين وذائقة المتلقين، عبر عقود من الزمن، مقترنًا في الوقت ذاته بضرب من الجدل الحاد بين الحفاظ على التراث والحاجة إلى الأخذ عن الآخر، ولا ريب أن هذا الجدل بين طرفين كلاهما لا يخلو من صحة، قد كان أهم ما يَسِمُ تيار النهضة منذ مطالع القرنين، كما كان مصدر كثير من الاستقطابات الفكرية والفنية، والانحيازات الجمالية والإبداعية، على مدى قرنين من الزمن، هي ساحة المادة الشعرية لهذا المعجم الماثل بين يدي المتلقي الكريم.
والفيصل الزمني الذي اعتبره المعجم حاسمًا في اندراج شاعر واستبعاد آخر هو تاريخ الوفاة طبقًا للتقويم الميلادي، بحيث يبدأ المعجم بالشعراء المتوفين عام (1801م) ويمتد حتى نهاية القرن العشرين (2000م) وارتأى مجلس الأمناء والهيئة الاستشارية للمعجم إدخال السنوات التي تسبق صدور المعجم من القرن الواحد والعشرين في إطار المعجم، ولا يعني ذلك أن المعجم ينحصر أساساً في القرنين التاسع عشر والعشرين، فالشاعر الذي توفي عام (1801م) - على سبيل التمثيل - يندرج في حد البدء، رغم أن جلّ نشاطه الإبداعي ربما كان في القرن الثامن عشر، وما هذا وذاك إلا من قبيل الحرص على استغراق هذا المعجم لأكبر قدر ممكن من فيالق المبدعين، دون خروج - بطبيعة الحال - عن الإطار الزمني الذي افترض منذ البداية لهذا المعجم.
وإذا كان في ما سبق ما يسوغ الرقعة الزمنية التي يتحرك عليها هذا المعجم بدءًا وختامًا، فإن خريطة المكان التي انداح عليها كانت - بالقطع - أكثر رحابة وامتدادًا، لأنها انفسحت جنوبًا حتى استوعبت أقلامًا لشعراء ذوي عدد من إفريقيا شرقًا وغربًا، وراحت تجوب شرقًا مناطق في أصقاع شبه القارة الهندية، مارّة هنا وهناك بشعراء كثْر ممن كانت لغتهم الأم هي اللغة الفارسية، ولكنهم نظموا شعرًا بالعربية، فاندرجوا فيما اندرج فيه نظراؤهم من أبناء اللغة العربية، وهكذا جاء هذا المعجم وثيقة كبرى لكل الإبداع المنظوم بالعربية مهما اختلفت بها الأقطار، وتنوعت بها بيئات القول، وكان النظر الحاكم في كل مراحل العمل هو ما دانت به المؤسسة في شتى أعمالها، وما حدد به رسول الإسلام العظيم ( r ) مفهوم العربية حين قرر أن العربية ليست عربية الأب والأم، ولكن العربية هي اللسان، فمن تكلم بالعربية فهو عربي، ومن هنا تجاور في هذا المعجم شاعر من السنغال مع آخر من مصر، وثالث من الهند مع رابع من العراق، لا يفصل بين هذا وذاك فاصل، ولا يحجزه عنه حاجز، بل الجميع سواسية تحت مظلة المعايير الفنية التي استنتها هيئة المعجم منذ البداية، تروز بها الشعر وتعجم بها عيدان الشعراء !
وأول هذه المعايير - كما سبق أن أومأنا - سلامة اللغة الشعرية، إذ الشعر فن باللغة، وبها يصبح الشعر شعرًا، وبدونها لا يتحقق، ومع ذلك كان المعجم من المرونة بحيث سمح بنماذج تقتضي إصلاح هذه الكلمة أو تلك، ما دام هذا الإصلاح ممكنًا، وفي حدود ما تقتضيه الضرورة، أما إذا فشت ظاهرة الاختلال اللغوي فإنها تقدح في شعرية النموذج، وتعدل عنه إلى غيره، كما تعدل عن صاحبه عدولاً تامًا إذا كانت كل نماذجه عرضة للاهتراء اللغوي.
أما ثاني المعايير فهو صحة الإيقاع، وفي إطار هذا المعيار جاءت كثرة النماذج من الشعر العمودي، كما جاء كثير منها من شعر التفعيلة، على حين جاء أقلها من قصيدة النثر، شريطة أن يكون لصاحبها تجارب إبداعية سابقة، بحيث يكون التجاؤه إلى هذا الضرب من القول تتويجًا لمسيرة ممتدة في العطاء الشعري بمختلف تجلياته الجمالية.
أما ثالث المعايير فهو تمتع النموذج الذي يندرج في المعجم بمائية الشعر، ونعني بمائية الشعر تلك المادة الخفية المستسرّة التي تنسرب في ذائقة المتلقي انسراب النسغ في شرايين الزهر، فليس الشعر بما تسمعه من رنات أجراس الكلام في القصيدة، بل هو - كما يعرفنا جبران خليل جبران - «بما يتسرب إلىك من القصيدة مما بقي ساكتًا هادئًا مستوحشًا في روح الشاعر، وبما توحيه إلىك الصورة فترى وأنت محدّق بها ما هو أبعد وأجمل منها»، وفي جميع الأحوال لم يحرم شاعر يستحق هذه الصفة من الدخول في المعجم، ولو لم تكن له دواوين شعرية مطبوعة أو مخطوطة.
وفي إطار هذه المعايير التي تحقق سلامة اللغة وصحة الإيقاع وشعرية النص كان الهدف الذي وضعه القائمون على المعجم نصب أعينهم رسم خريطة كاملة للشعر العربي عبر القرنين، والتعريف بشعرائه مشرقه ومغربه، ومن ثم لم ينحصر عمل المعجم في كبار الشعراء وحدهم، وإنما فسح مكانًا فيه للمغامير الذين طمرت إبداعهم يد الزمن، وامتدت أصابع المعجم لتستنقذهم من وهدة النسيان، كما اتسعت ساحته لغير المشاهير ممن حققوا مستوى جيدًا يستحقون به أن يسلط الضوء عليهم، بل إن رحابة التعامل قد اتسعت مع المبدعين من غير العرب إلى حدّ إلقاء الضوء على شعراء لم يصلنا من إنتاجهم إلا النزر اليسير، إيمانًا بحقيقتين: أن هؤلاء الذين نظموا بالعربية وهم من غير أهلها يستوجبون - أولاً - تسجيل عطائهم مهما كان قليلاً، تقديرًا لبذلهم، وتنويهًا بشأنهم، وإيماءً إلى عالمية العربية وإسهامها الكوني، كما أن ما بقي من إبداعهم - ثانيًا - يشير إلى ما لم يبقَ منه بفعل عاديات الزمن، لأن أثر الأقدام - كما يقال - يدل علي المسير، وفي كلتا الحقيقتين ما يقتضي توثيق عطائهم وإن قلَّ، وتحرير ما قالوا وإن اعتوره ما يعتور نتاج غير الناطقين بالعربية من شوائب العبارة والتركيب في بعض الأحوال، بل إن هذه الشوائب لا تخلو - عند النظر الدقيق - من دلالات اجتماعية وحضارية وثقافية.
ومن قبيل هذا المستوى من رحابة النظر تعامل المعجم مع شعراء النصف الأول من القرن التاسع عشر؛ إذ لا يخلو نتاج هؤلاء من بعض الهنوات اللغوية والعروضية التي اقتضت قدرًا من المرونة في استقبالها، بحكم أن هذا النتاج يمثل عصره أصدق تمثيل، ثم لأن المستوى الفني للإبداع الشعري في هذه الحقبة لم يكن في - مجمله - عند الذروة من حيث القيمة الفنية. وفي هذا المدار أيضًا - من رحابة النظر - كان التعامل مع إنتاج الشخصيات المهمة في الساحة الحضارية والثقافية ولكن المتوفر من إنتاجها الشعري قليل. وربما انطبقت هذه النظرة - أيضًا - على بعض الشعراء من ذوي القصيدة الواحدة، ما دام لم يعثر للشاعر على غيرها، وما دامت قصيدة جيدة، وما العجب في هذا إذا كنا ما زلنا نتغنَّى بيتيمة الشاعر العربي القديم «سويد بن أبي كاهل اليشكري»، مع أن تاريخ الشعر العربي لم يسجل له سواها ؟!
(2)
وإذا كانت تلك معايير من يندرجون بين دفَّتي هذا المعجم، فإن ثمة معايير أخرى حكمت حجم المادة الشعرية وآفاق تنوعها، فإذا كان معجم المعاصرين، الشقيق السابق لهذا المعجم، قد اتبع نمطًا موحدًا في تحرير السيرة الذاتية، وتحديد الحيز المخصص لكل ترجمة، وتعيين نسبة ما تشغله كل من الترجمة والنماذج الشعرية إلى المساحة الكلية المخصصة لكل شاعر. وهي عبارة عن صفحتىن متقابلتين، يخصص منها نصف الصفحة الأولى لسيرة الشاعر، وباقيها للنماذج الشعرية، فإن فلسفة هذه القضية قد اختلفت في معجمنا هذا بعض الاختلاف، وذلك لسبب في غاية الأهمية؛ إذ إن البيئات الإبداعية للشعر العربي مع مطالع القرن التاسع عشر، ومع تنوع هذه البيئات شرقًا وغربًا وشمالاً وجنوبًا، كانت بحاجة إلى بعض الوقت لكي تصل إلى تصور جديد لمفهوم الشعر وبناء القصيدة، وما إن أوشكت شمس هذا القرن على المغيب حتى بدأت عواصف المهجريين والديوانيين والأبوليّين، متعاقبة ومتواكبة، تعصف بكثير من الثوابت الفنية عصفًا، وما لبثت باحة القرن العشرين أن اتسعت لقفزات جديدة عديدة في التقنية الشعرية ما بين قصيدة التفعيلة وقصيدة النثر، وما بين الخطاب المتمركز على وحدة السطر الشعري والخطاب الذي يتخذ وحدته من الجملة إلى ذلك الذي ينهض على وحدة الفقرة الشعرية، وبين البنية الشعرية القائمة على الصوت الواحد والبنية ذات الأصوات المتعددة، ثم البنية متوازية الأصوات، وهكذا رأينا زخمًا من النتاج الشعري أعانت عليه الطباعة الحديثة وتنوع وسائل النشر، بحيث لم يعد ممكنًا التسوية بين حجم النتاج الشعري الذي شهده الشطر الأخير من الحيز الزماني للمعجم وذلك الشطر الذي استهلت به العقود الأولى والوسيطة من القرن التاسع عشر، ناهيك عن تفاوت الشعراء أنفسهم من حيث العطاء، وتنوع إبداعهم قلة وكثرة، وقوة وضعفًا، واختلاف قاماتهم الفنية، بما يجعل من التسوية المطلقة بينهم في حجم المادة الشعرية حيفًا ظاهره الإنصاف.
من ثم رأت هيئة المعجم تصنيف من يندرجون في المعجم إلى طوائف ثلاث: من يقتضي امتلاء سيرته وغزارة نتاجه ست صفحات أو حولها، ومن يقتضي الأمر معه أربع صفحات أو نحوها، ومن تكفيه صفحتان فحسب، وهذه الطائفة الأخيرة هي الجمهرة العظمى من شعراء هذا المعجم، وهذا - بطبيعة الحال - مع مرونة كافية في الحيز المخصص لكل شاعر، فلا تنبتّ ترجمة دون الوفاء بها، ولا يجتزأ نموذج بحجة ضيق المكان، ثم إن بين كل طائفة وأخرى من القيم السماحيّة والمنافذ المواربة ما بين الأبيض والأسود من ألوان الطيف ودرجات الألوان.
وقد ترتب على هذا الإجراء التصنيفي المرن أن سمة التقابل في الصفحات التي منحت للشاعر في معجم المعاصرين حلّت محلها سمة التوالي في معجم القرنين، بحيث انبنى ذلك الأخير على تتابع الشعراء دون فاصل فراغي، الأمر الذي ترتب عليه أن يفرغ المعجم من شاعر، فيفرغ في نفس الصفحة إلى شاعر آخر، وهو إجراء اقتضته غزارة المادة، مثلما استوجبته وفرة عدد شعراء هذا المعجم وفرة سيعلمها متلقيه علم اليقين.
(3)
وإذا كان الحديث قد تطرق - حتى الآن - إلى حكمة اختيار المدى الزماني للمعجم، ومعايير انضواء الشعراء بين دفتيه، والمقاييس الحاكمة لحجم المساحة التي تمنح لكل شاعر، فإن ثمة عددًا من ضوابط إثبات المادة الشعرية، يأتي في مقابله عدد من المحاذير التي حاول المعجم توقّيها.
فمن ضوابط المادة الشعرية:
أولاً: الحرص على مبدأ التنوع، فحيثما سمحت المادة الشعرية، حرص المعجم على إيراد عدد من النماذج، لايقل في أغلب الأحوال عن ثلاثة، بحيث يبرز تنوعها تنوع تجارب الشاعر، وبحيث تفضي مجتمعة إلى تشكيل كل قسمات الوجه الفني للمبدع، حرصًا على أن يُمثل مجموع المادة المسجلة جملة ملامح الشاعر، مثلما يحرص المعجم في جملته على تمثيل كل تضاريس خريطة الشعر العربي في القرنين المنصرمين.
ثانيًا: مبدأ التنوع قد يقتضي - أحيانًا - اجتزاء النص أو اختصاره، ومن ثم راعى المعجم في حالة الاختصار أن يكون المثبت من النموذج أبياتًا متتالية، وعدم القفز من مكان إلى آخر، بهدف توفير معمار بنائيٍّ واحد للنّص المجتزأ، وفي كل الأحوال يتم استكمال النماذج الشعرية حينما يكون الاجتزاء مخلاً.
ثالثاً: مع التسليم بما سبقت الإشارة إلىه من التزام معياري السلامة اللغوية والصحة الإيقاعية، قد لا تخلو بعض النماذج من سقاط هنا أو هناك، الأمر الذي يقتضي التدخل لتصحيح بعض التجاوزات اللغوية أو العروضية الهيّنة بالقدر الذي لا يغير من عمل الشاعر، وعلى النحو الذي لا يؤثر في سلامة التكوين الشعري، وإلا احتفظ ببعض التجاوزات التي لا يمكن التدخل فيها، وقد وضعت علامات محددة في إشارة إلى هذه الأمور.
رابعًا: روعي في اختيار النماذج الشعرية تفضيل انتقاء الأجود، وتقديم النصوص التي تطرح تجارب إنسانية ووجدانية تمس الشعور الجمعي المشترك، وتتسم بالأصالة والابتكار، مع الحرص - في الآن ذاته - على التمثيل لمختلف تجارب الشاعر.
خامساً: تندرج في المعجم طائفة من النصوص الشعرية التي قام مبدعوها بترجمتها من لغات أجنبية، ولأن الشعر - في التحليل الأخير - فن باللغة، ولأن ترجمته نظمًا هي إبداع موازٍ لإبداع المنتج الأصيل، حرص المعجم على نسبة الشعر المترجم نظمًا إلى مترجمه، مع النص في صدر النموذج على مصدره المترجم عنه.
أما قائمة المحاذير التي حاول المعجم توقيها، فيمكن أن نثبت منها ما يلي:
أولاً: المنظومات العلمية، وهي ظاهرة فشت في القرن التاسع عشر فشوًا ملحوظًا، وقصد بها إلى غايات شتى، كما انداحت على أصقاع معرفية مختلفة، فمن أهم مقاصدها اختصار المستوى العلمي الذي تتناوله، والإعانة على حفظه، والتوسل بالنظم إلى تسجيله، أما ميادينها المعرفية فقد تنوعت من الفقه إلى علم الكلام، ومن المنطق إلى العقيدة، ومن اللغة إلى النحو، كل ذلك في ثوب من الكلام الموزون المقفى، ولكنها - رغم انتظامها وزنًا وقافية - تفتقر إلى مائية الشعر وروحه، الأمر الذي لا يسمح بإدراجها في إطار المادة الشعرية المقدمة.
ومثلما تباينت محتويات هذه الظاهرة النظمية معرفيّاً، اختلفت المناطق الجغرافية العربية في مبلغ اهتمامها بها، وربما كان الاهتمام الأشد بها ملحوظًا - بصفة خاصة - في الشعر العُماني وما التحق به من شعر زنجبار وبعض السواحل الإفريقية على البحر الأحمر، وقد اتخذ في عمان - غالبًا - نمط الأسئلة والأجوبة الفقهية، يقوم أحد الشعراء بنظم سؤاله في قصيدة يوجهها إلى واحد من أهل الذكر، الذي يتولّى بدوره الرد على القصيدة بقصيدة مقابلة، تلتزم - في الغالب - بنفس وزن وقافية قصيدة السؤال، وهو نمط في التراشق الشعري له أصوله في النقائض الشعرية التي شاعت في عصور شعرنا العربي القديم، وبلغت ذروتها على أفواه الثالوث الأموي الذائع؛ جرير والفررذق والأخطل.
ولأن هذا النمط من التراشق المنظوم يفتقد مائية الشعر - المعيار الثالث من معايير الاندراج التي سلفت الإشارة إلىها - وليس له من الشعر إلا الشكل، فإن المعجم قد حاول توقّي النماذج الصارخة منه، مع مرونة كافية في السماح بما يحتوي على شيء من النسغ العاطفي من نظم المتصوفة وتوسلاتهم وأذكارهم المعروفة، وهي - رغم كل شيء - لا تخلو من ألقٍ باطني وروحي عميق !!.
ثانيًا: من المحاذير التي راعاها المعجم وحرص على اجتنابها تلك النماذج التي تتعرض للأديان أو العقائد أو الأعراق أو الأخلاق، لأن هذه النماذج تفضي إلى التفرقة والاستقطاب والانكفاء، حين يحرص المعجم على وحدة الصف والكلمة جميعًا.
ثالثًا: النماذج التي تمس الثوابت الوطنية والقومية، أو تقدح في مذخور الأمة وتراثها العريق.
رابعًا: الذمّ والهجاء الشخصي، سواء لشخصيّات تاريخية أو معاصرة، ما دام هذا الذمُّ يتسم بالإسفاف والذاتية.
خامسًا: الشعر الطائفي أو الموجّه، إذا تضمن الإساءة إلى توجهات الآخرين أو تراثهم بشكل صريح، أو كان من شأنه أن يفضي إلى تكريس التشرذم أو ترسيخ ثقافة الكراهية بدلاً من تأصيل فقه الحوار.
فإذا برئت المادة الشعرية من كل هاتيك المحاذير كانت حريّة بأن يفسح لها المعجم مكانًا بين دفتيه، من الشعر العمودي كانت، أم من شعر التفعيلة، وحتى نماذج قصيدة النثر وجدت طريقها إلى المعجم ما دامت تتسم بالنضج، وما دام أصحابها قد توَّجوا بها تجاربهم الطويلة مع الممارسة الشعرية، وعلى الجملة لم يحرم شاعر جيد من الدخول في المعجم، ولو لم تكن له دواوين مطبوعة أو مخطوطة.
ويمكن للمتلقي أن يلمس بنفسه مدى الجهد المبذول في تحقيق هذه الغاية، وهو جهد خضع للتطور والتدريج، التماسًا لأيسر السبل وأكثرها انضباطًا في الوصول إلى المطلوب، فقد كانت فرق الباحثين من شتى الأقطار تقوم بجمع المادة وتصنيفها وتوثيقها وفق معايير حددتها هيئة المعجم، من بطون المصادر، ومن المخطوطات المحفوظة، ومن اللقاءات المباشرة مع ذوي الشعراء ورواة شعرهم، مع تحري الدقة في كل ما ينقل أو يروى، فإذا جاءت استمارة الشاعر وهي تعاني من نقصٍ أو خللٍ أو وهمٍ ردّت إلى الباحث للضبط والمراجعة، وإذا كان هذا العمل مع هذه الوتيرة شاقًا في ما يتعلق بشعراء الأقطار العربية، فإنه كان أكثر مشقة وعناء بالنسبة إلى الشعراء من غير العرب، وللمتلقي أن يتخيل حجم الجهد المبذول في التماس شعراء شبه القارة الهندية أو الناظمين بالعربية من السنغال أو نيجيريا أو سواهما من شرقي إفريقيا ووسطها وغربها. لقد كان جهدًا أسطوريّاً نهضت به طائفة نذرت نفسها لهذا العمل من أجل وجه الثقافة العربية، وفي محراب فن العربية الأول: الشعر، ذلك الشيخ الجليل المهيب.
فإذا تسنّى للباحثين جمع المادة العلمية لسير الشعراء وأطوار حياتهم، والمادة الفنية ممثلة في نماذجهم الشعرية قليلها وكثيرها، فقد كانت تعرض - بعد ذلك - على فريقين من أسرة المعجم: الفريق الأول لتحرير السيرة وبلورتها وفق ما سنشير إلىه بعد قليل بإشراف الدكتور محمد حسن عبدالله، والفريق الآخر ينظر في النماذج الشعرية، ليتبين - أولاً - درجة شعرية النماذج، طبقًا للمعايير والمحاذير التي سبق الحديث عنها، فإذا تحقق الحد الأدنى من هذه الشعرية يقوم - هذا الفريق - باختيار النماذج التي ستقدم، وترتيبها طبقًا لأولوية الأخذ بها أو طرحها، فإذا تم ذلك قام رأس هذا الفريق المستشار الفني للمعجم، بتصنيف الثقل النوعي للشاعر وحجم المساحة الطباعية التي يستحقها، تبعًا لدرجة شاعريته، وغزارة إنتاجه، ووفرة أعماله الشعرية، فإذا وجد في هذا الإنتاج ما يقتضي الريث أو التوقف أو التصادم مع المواصفات التي حددت سلفًا للمعجم دوّن ملحوظاته بهذا الخصوص، ومن ثم يعاد عرض مادة الشاعر - من جديد - على مكتب التحرير، فإذا اتفق أعضاؤه على قرار بقبول المادة فبها، وإلا تم إحالة الموضوع برمته إلى لجنة رئيس مجلس الأمناء باعتبارها المرجعية العليا لمادة المعجم إيجابًا ونفيًا، وهكذا يرى المتلقي الكريم أن قنوات تصفية المادة ونخلها كانت من الدقة والتشعّب بحيث يقتضيها عمل بحجم هذا المعجم الكبير.
(4)
وإذا كان الحديث قد اتجه - في ما سبق - إلى المادة الشعرية، فإن من الإنصاف ألا تغفل الطريقة التي تم بها تحرير سيرة الشاعر والتعريف به، وقد كان هذا التعريف يأتي سابقًا على المادة الشعرية ويتضمن المعلومات الآتية:
1- الاسم الذي اشتهر به الشاعر ونشر تحته شعره، وعلى يساره وتحته بقليل يدون تاريخ الميلاد والوفاة، طبقًا للتقويمين الهجري والميلادي، واعتمد التاريخ الميلادي أساساً يتكئ عليه المعجم باعتبار عنوانه، على أنه إذا وجد تاريخ الميلاد دون تاريخ الوفاة أو العكس اعتمد على ما هو موجود في الاستدلال على ما ليس بموجود، فإذا لم يتم العثور على التاريخين اعتمد على القرائن التاريخية لتحديد المرحلة الزمنية التي ينتمي إلىها الشاعر، وذلك بعد استفراغ الجهد في المراجعة والتثبت.
2 - الاسم الكامل، ويكتفى فيه بالاسم الرباعي، وتحذف الألقاب العلمية والاجتماعية (الحاج - الشيخ - الدكتور) إلا إذا كانت من ضمن اسم الشاعر.
3 - مكان الميلاد والوفاة، والبلد الذي عاش به، والبلاد التي زارها أو ارتحل إلىها.
4 - حياة الشاعر العلمية ومراحل دراسته والشهادات التي احتازها.
5 - حياته العملية، والوظائف التي تولاها، أو المهن التي امتهنها.
6 - عضوية الجمعيات أو الهيئات أو المؤسسات
7 - الإنتاج الشعري، وفي مقدمته الدواوين المطبوعة مرتبة وفق تسلسل تواريخ نشرها، بدءًا بالأقدم، مع النص على سنة الإصدار ومكانه، على أنه في حالة عدم وجود دواوين مطبوعة، ووجود ديوان مخطوط يذكر ذلك بعد الاستيقان من صحة المعلومة وتحديد مصدرها.
8 - أعمال الشاعر الأخرى، مع الإشارة إلى أماكن وتواريخ طباعتها، ومن قام بتحقيقها أو إصدارها، إذا كان ثمة من قام بذلك، مع مراعاة تسلسل تواريخ نشرها قدر الإمكان.
9 - توصيف موجز لإبداع الشاعر كتقرير لواقع الخصائص غير المختلف عليها.
10 - وأخيرًا مصادر الدراسة ومراجعها، حيث يرد اسم المؤلف، ثم عنوان المصدر أو المرجع، ثم باقي بيانات النشر، وذلك جميعه وفق الترتيب الهجائي لأسماء المؤلفين.
أما من حيث الشكل العام للمعجم فقد رتبت فيه أسماء الشعراء حسب الترتيب الهجائي، مع مراعاة الضوابط الآتية:
1 - اعتبار الاسم الذي اشتهر به الشاعر ونشر به شعره.
2 - إدخال «أل» في الترتيب الهجائي.
3 - ضبط المشكل من مفردات المادة الشعرية.
4 - اعتبار الحرف المشدد حرفًا واحداً تبعًا للرسم.
5 - وضع الألف بعد الهمزة، وليس بعد الواو كما يفعل بعض الكاتبين.
6 - اعتبار التاء المربوطة هاء، ووضعها في الترتيب الهجائي بعد النون.
7 - الهمزة المقصورة والهمزة الممدودة في أول الاسم اعتبرتا همزة من نوع واحد، كما نظر إلى الهمزة دائمًا باعتبارها همزة، بغض النظر عما كتبت عليه.
8 - لأن المعجم قد بني على التوالي، فقد يحدث أن يستقل الشاعر بالصفحة التي ورد فيها اسمه، وقد يحدث أن يشاركه فيها اسم شاعر آخر.
هذا وقد ألحقت بالمعجم فهارس للأعلام والدواوين وبلدان الشعراء والشواعر، كما أضيف ثبت خاص بشعراء المهاجر، وكان الهدف من هذا جميعه إتاحة الفرصة أمام الباحثين لكي يستنبطوا من هذه الفهارس دلالاتها الفنية والثقافية.
وفي سياق الرصد الوصفي لمنهج هذا المعجم يقتضي الأمر الإشارة إلى إشكالية صادفت فريق العمل أثناء جهده الموصول، وهي أن طائفة لا بأس بها من الشعراء قد انتقلوا إلى رحاب الرفيق الأعلى بعد صدور معجم المعاصرين، وقد تراوح الرأي بين خيارين: إما أن ينقل هؤلاء بقضّهم وقضيضهم إلى معجم شعراء العربية في القرنين، مع ما في ذلك من تكرار، وتعطيل للرسالة الجلّى التي ينهض بها معجم المعاصرين، وإما أن يبقوا حيث هم، وقد آثر المعجم الخيار الثاني، منعًا للتكرار.
(5)
وإذا كنا في هذه التوطئة قد ألقينا نظرة - نأمل ألا تكون عجلى - على منهج المعجم من حيث الشكل والأبعاد الزمانية والمكانية، فربما اتسع المقام في ما يتلو لنظرة مماثلة إلى بعض القضايا أو الظواهر الفنية والموضوعية التي أفرزتها مادة هذا المعجم الذي انداح على مدى قرنين من تاريخ شعرنا العريق. وأولى الظواهر التي يمكن أن يلمحها الناظر في هذا المقام اقتران بدايات النهضة - مع مطالع القرن التاسع عشر - بسمة تكاد تكون غالبة على الشعر العربي بعامة، وعلى الشعر الذي أفرزته بيئات الإبداع في شمال إفريقيا ووسطها وغربها وشرقها والشواطئ اللائذة بها من الشرق الآسيوي بخاصة، وهي الظاهرة التي عبرت عن نفسها بشعر العلماء في السودان، وشعر الفقهاء في عُمان واليمن وزنجبار، وشعر المتصوفة في أصقاع مختلفة من السنغال ونيجيريا وغيرهما في الشرق والغرب الإفريقي، وشعر التوسل والابتهالات والمدائح النبوية ومعارضات التراث في هذه المناطق وما يجاورها من المناطق المغاربية وموريتانيا، وجميعها ألوان من الإبداع وجدت بيئتها الحاضنة في الخلاوي، و«المحاضر» وحلقات التصوف وأوراد الذاكرين، كما وجدت أرديتها الفنية في الوشائج التي ربطتها بالتراث كالمحسنات البديعية وآليات التشطير والتخميس والمعارضة، وهي أردية فنية ترتد بفلسفتها إلى فكرة النمنمة على حواشي الرقعة التراثية، وتذكرنا بنظائر لها في شعر مصر المملوكية والعثمانية.
وقد اقترنت هذه الظاهرة بظاهرة أخرى أكثر شيوعًا وأقوى دلالة على وضعية الشعر العربي في أواسط القرن التاسع عشر وحتى نهاياته، وهي ظاهرة الإحياء بكل ما تعنيه من حفاوة بالتراث العربي من ناحية، وبحركة البعث الشعري التي حمل لواءها البارودي، من ناحية أخرى، وهي الحركة التي كانت أصداؤها تتقاطر إلى مسامع المبدعين في شتى أرجاء العالم العربي عبر ما كان يقع في أيديهم من الصحف والمجلات العربية وخاصة المصرية والشامية الزاخرة بالطريف والمستحدث من مذاهب الشعر وطرائقه.
وتقاطر الأصداء - على هذا النحو - هو الذي يفسر لنا كيف تزامن المنجز الإحيائي للبارودي مع المنجز الإحيائي لصنوه في الجناح اللبناني من بلاد الشام: إبراهيم اليازجي (1847 - 1906) وهو ابن شاعر هو ناصيف اليازجي، وشقيق شاعر هو خليل اليازجي، ثم هو أحد رواد النهضة البارزين في العالم العربي، وقد نال شهرة واسعة بوصفه لغويّاً وصحافيّاً وناقدًا جريئًا، وبعد ذلك - أو قبله إن شئت - بوصفه شاعرًا رائدًا، قد يكون مقلاّ، وقد يكون أكثر جنوحًا إلى المحاكاة السلفية، ولكن حجم إنجازه ينبغي أن يقاس بحجم ما حمله شعره من حس وطني وقومي، كان بمثابة الشرارة التي انتشرت في الهشيم، وسرعان ما انتقلت إلى مجايليه ومن تلاهم في الجناح السوري من بلاد الشام من أمثال: خيرالدين الزركلي (1893 - 1976م) وخليل مردم (1895 - 1959م) وشفيق جبري (1898 - 1980م) ومحمد سليمان الأحمد «بدوي الجبل» (1903 - 1981م)، وفي شعرهم جميعًا يتجلى عبق ذلك الحس الإحيائي المراوح بين استلهام الموروث والطموح إلى بعث ديباجة القصيدة العربية في أزهى عصورها.
هذه «النزعة الإحيائية» التي رادها البارودي، وسار على سننه فيها خلفاؤه من أمثال أحمد شوقي وحافظ إبراهيم وأحمد محرم وإسماعيل صبري وولي الدين يكن، وأضرابهم، لم تكن - إذن - ملمحًا خاصًا ببيئة الإبداع المصري، بل كانت ظاهرة مشتركة بين معظم - إن لم يكن كل - البيئات الإبداعية في عالمنا العربي، رغم بعض الفوارق المحلية الهينة، وقد برز من الخيوط التي نسجت رداء هذه النزعة منذ البداية خيطان جوهريان، أولهما «العودة إلى التراث» وثانيهما «محاكاة النماذج العليا» في أزهى عصور الماضي الشعري وأكثرها تألقًا، وعلى كثرة ما يحمله هذان الخيطان من معانٍ، فإنهما يومِئان إلى قيمتىن لا بأس من توكيدهما، باعتبارهما من أبرز السمات الجمعية التي تخترق تربة الشعر العربي عبر القرنين، وأولى هاتين القيمتىن أن فجر الشعر العربي الحديث لم يخرج عن سنن النهضات الأدبية العالمية في «الرجعة إلى الماضي»، حين تهم بالانطلاق منه إلى آفاق المستقبل، ومن ثم قد يبدو وكأن آداب الأمم تسلك في بدايات تطورها طريقًا معكوسًا؛ إذ تنحو إلى التغيير فلا تجد سبيلاً إلىه إلا بمحاكاة أروع النماذج التي حفظتها واعية هذه الأمم، وليس أدل على ذلك من أن مطالع النهضة الأوروبية إبان القرن السادس عشر لم تؤد تلقائيّاً إلى ازدهار الآداب القومية الأوروبية، بل اتخذت في البداية شكل «إحياء ثقافي» لتراث الماضي، ممثلاً في الآداب الإغريقية والرومانية.
أما ثانية القيمتىن اللتين تعكسهما هذه «العودة إلى المنابع»، فهي أنها عودة لا تخلو من مغزى حضاري، حين تتخذ من هذه «المنابع» ذخيرة لها في مواجهة الآخر، الذي كان يحاول في هذه الحقبة من زمن القرن التاسع عشر نسخ ماضي الأمة ومسخ حاضرها، كما لا تخلو من مغزى تاريخي فحواه توكيد الذات العربية بأبرز وأعرق ما يجلو هويتها ويبرز أصالتها، نعني «القول المنظوم» الذي اعتبرته هذه الذات «ديوانها» الذي لا يعتريه نسخ ولا مسخ ولا تحريف، ولا جرم أنه سجّل مفاخرها وقيَّد مآثرها كما كان الجاحظ يقول.
وإذن كانت هذه النزعة الإحيائية. كالأواني المستطرقة، ما تكاد تنسرب إلى بيئة حتى تنداح منها إلى بيئات أخرى، وإذا كنا قد ألمحنا إلى أصولها في مصر، وشيء من تجلياتها في الشمال والسواحل الإفريقية، فإننا يمكن أن نلمح أطرافًا منها في شعر الخليج والجزيرة العربية، وبخاصة في نتاج شعراء من أمثال ابن عثيمين وعبد الجليل الطباطبائي ومحمد حسن المرزوقي وعبد الرحمن ابن درهم وعبد الرحمن بن صالح الخليفي، ثم في نتاج من تلاهم من شعراء الرعيل الثاني كعبد الرحمن المعاودة (البحرين) وعبد العزيز الرشيد وخالد الفرج (الكويت)، وإذا كان الرعيل الأول يتميز بنزعة تراثية إحيائية تتجلى في الجنوح إلى الأغراض الشعرية التقليدية، مع جزالة الأسلوب ومتانة العبارة وانتقاء الألفاظ الرنانة والنبرة الحماسية، فإن الرعيل الثاني كان أوفر قسطًا من التحديث في الجانب الموضوعي بالذات، حيث تشتد الدعوة إلى الاصلاح وتعلو درجة المناداة بتنشيط الحركة التعليمية، دون أن تنال هذه الروح التحديثية من ميل هذا التيار - كسابقه - إلى التنويه بالماضي واستدعائه في الأعمال الشعرية واستنطاق أمجاده فنيّاً وفكريّاً، الأمر الذي يذكرنا بنفس الفروق بين جيل الإحياء الأول في مصر ممثلاً في البارودي ومعاصريه، وجيل الإحياء الثاني ممثلاً في شوقي ومجايليه، ولا غرو أن تجد عند الجيلين شيئًا مما سبق أن أومأنا إلىه من غرام كثير من شعراء القرن التاسع عشر «بمعارضة الأسلاف» عن طريق محاكاة ما يرون من إبداعاتهم، فمثلما عارض البارودي النابغة وأبا نواس والمتنبي وأضرابهم، عارض شوقي ابن زيدون والبوصيري، وما هذا وذاك إلا بعض تجليات النزعة الإحيائية التي سلكت بيئات الشعر العربي منذ مطالع النهضة الأدبية.
ولهذه النهضة الأدبية صلة بظاهرة أخرى نلمحها في شعر هذا المعجم، نعنى بذلك تلك العلاقة الحميمة بين تطور الوعى الفني ونموّ الحس القومي، وبروز الروح الوطنية، والتّوق إلى الحرية، وانصهار هذا جميعه بغير قليل من أمشاج حركات الإصلاح الديني والاجتماعي، ويمكن - دون عناء - الارتداد بهذا إلى سادن النزعة الإصلاحية في العالم الإسلامي إبان النصف الثاني من القرن التاسع عشر، عنينا بذلك السيد جمال الدين الأفغاني، فمن عباءته خرجت جملة توجهات الإمام محمد عبده ومحمد رشيد رضا وعبدالعزيز الثعالبي وعبدالعزيز الرشيد وابن باديس، كما أن المبادئ الاصلاحية لدى هؤلاء جميعًا ليست بعيدة عن مثيلتها لدى علمين من أعلام هذه الحقبة، أحدهما من الجناح المغاربي للعالم العربي وهو الأمير الشاعر المجاهد عبدالقادر الجزائري (1807 - 1883م)، والآخر من جناحه المشرقي هو عبدالرحمن الكواكبي (1854 - 1902م)، أما أولهما فيتميز بنفسه الشعري البطولي الذي واكب مواقفه تجاه الاحتلال الفرنسي لبلاده، وقيادته لجهاد إسلامي ظل مرابطًا على حد سيفه ما يقرب من عقدين، وأما ثانيهما فقد كان من المبشرين بمبادئ الإصلاح السياسي وفكرة «الجامعة الإسلامية» في كتابيه «طبائع الاستبداد» و«أم القرى»، ناهيك عن دوره الرائد في تأصيل الصحافة القومية ممثلة في صحيفتي «الشهباء» و«الاعتدال»، وما طرحه على صفحاتهما من آراء وجدت صدى رحبًا لدى المبدعين من الشعراء وفرسان الكلمة في شتى أصقاع العالم العربي.
وجماع القول عند هذا الحد من النظر أن تكامل وجوه النهضة فنيّاً وسياسيّاً وإصلاحيّاً، قد واكبه تكامل المكان العربي في تطور بيئاته الإبداعية، من حيث إنه كان لكل بيئة نصيبها من هذه النهضة، وحظها من هذا التطور، وإن تفاوتت الأنصباء واختلفت الحظوظ حجمًا وزمانًا، بحكم عوامل البيئة وتباين دواعي التقدم؛ فلئن كانت هذه النهضة قد تجلّت في شعر حركة الإحياء «المشرقية» على أقلام البارودي ووصفائه ممن ارتبطوا ارتباطًا وثيقًا بحركة التحرر عبر الثورة العرابية وما اقترن بها، فإن حركة الإحياء في البيئات الإبداعية للمغرب العربي لم تكن بعيدة بمسامعها عن أصداء الإحياء المشرقي، فعلى مفصل القرنين التاسع عشر والعشرين استطاعت الحركة السلفية في هذه البيئات أن تحدث هزة في مفهوم الشعر، وانتشرت عبرها أفكار المصلحين المشارقة على اختلافهم، وبدأت تتردد فيها مبادئ جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده ومحمد رشيد رضا، فنتج عن ذلك إقبال الشعراء المغاربة على النَّظم في موضوعات تعكس هذا الفكر الإسلامي الإصلاحي، وتدعو إلى تحرير العقل، وإنشاء المدارس والمعاهد العلمية، وجميعها موضوعات تبدو بوضوح في كثير من النماذج التي طرحها هذا المعجم، ثم ما لبث أن خرج إلى الساحة مع العقود الأولى من القرن العشرين بعض المبدعين الذين أُطلق عليهم شعراء الشباب، وكان لهؤلاء اتصال بالمدارس الشعرية المشرقية، ولعل خير من يمثل هذا المنزع في شعر النهضة المغاربية صالح السويسي (1874 - 1941م) والشاذلي خزندار (1881 - 1954م) من تونس، ورمضان حمّود (1906 - 1929م) ومحمد العيد خليفة (1904 - 1979م) من الجزائر، وعبدالله القبّاج (1910 - 1945م) ومحمد المختار السوسي (1900 - 1963م) وأضرابهما من المغرب، وفي إبداعهم تتجلى جملة مبادئ الحركة السلفية التي بزغت في بلاد المغرب العربي فور عودة المفكر المصلح عبدالله السنوسي من المشرق العربي مع فجر القرن المنصرم وهو يحتقب أصداء الأفكار الإصلاحية للأفغاني ومريديه، الأمر الذي أنتج في الساحة المغاربية إبان الحقبة المشار إليها شعرًا إصلاحيّاً يدعو إلى نشر المعارف والعلوم ويحث على إنشاء المدارس والمعاهد العلمية، وينبذ الخرافات والأباطيل، أي أنه كان في مجمله شعرًا تنويريّاً يتبنى أفكار الحركة السلفية في انتمائه الفكري، وينبض بالوعي الإحيائي في انتحائه الفني.
وقد شهدت ساحة الشعر العربي في بلاد المغرب، والشمال الإفريقي بعامة، منذ مطالع القرن العشرين، ضروبًا من الجدل الحي بين القديم والحديث، يناظر في مغزاه وأهدافه ما كان سائداً على الساحة المشرقية منذ خواتيم القرن التاسع عشر، وكانت هذه الضروب من الجدل مدينة ببواعثها لمظاهر التطور الذي شمل أقطار المغرب العربي على شتى الأصعدة الثقافية والاجتماعية بتأثير النهضة الوطنية، ونشاط التيار النقدي المصاحب لها، والذي أفضى إلى تغييب المفاهيم الفنية القاصرة، والاستعاضة عنها بإعمال بعض المقاييس والمصطلحات الفنية الجديدة.
ومن أبرز دلائل الاقتران بين النهضتين القومية والفنية ما شهدته البيئة الشعرية في جنوبي الجزيرة العربية، وفي اليمن بخاصة، حيث ظلت هذه البيئة حتى مطالع القرن العشرين أسيرة عزلة صعبة فرضتها عليها ظروف القهر والتخلف، حتى قيض لها من الرواد من حاولوا كسر طوق هذه العزلة، ووضع الشعر في هذه البيئة في مكانه من خريطة التطور الطبيعي والاقتران العضوي بين نمو الحس العربي الوطني والوعي الشعري الحديث، وربما كان أبرز هؤلاء الرواد الشاعر الثائر محمد محمود الزبيري، الذي اختصر الخيارات الفنية أمام أبناء جيله في طريقين لا ثالث لهما: الرضوخ أو الثورة، وقد اختار الطريق الأخير باعتباره السبيل أمام كل إبداع حقيقي، ومن بعده سارت على الدرب فيالق من سدنة الشعر العربي الحديث، استطاعت أن تتمثل تجارب سابقيهم وأقرانهم في مصر والشام والعراق، كما استطاعت أن تنتقل بالقصيدة العربية من طورها السلفي إلى طورها الإحيائي، ثم إلى طورها الجمالي الحديث.
و«كسر طوق العزلة» في جنوب الجزيرة العربية يقابله - من حيث الدلالة على اقتران الحس القومى والتطور الفني - محاولة «الانفلات من ربقة التخلف» في الجناح العراقي من الشرق العربي؛ فالمقارنة بين واقع الشعر المصري - مثلاً - والشعر العراقي مع الزفير الأخير في القرن التاسع عشر تكشف عن بعض المفارقة؛ فعلى حين كان البارودي وأقرانه يخطّون بأقلامهم ملامح اتجاه شعري بازغ، كان المزامنون له من شعراء العراق يكدحون من أجل الحدّ الأدنى من الثقافة الروحية والوعي بحقائق الواقع وتقلبات الحياة السياسية، والمتأمل في شعر هذه الحقبة العراقية من أخريات القرن التاسع عشر سوف يجد أن شعر محمد سعيد الحبوبي (1849 - 1916م) وعبدالغني جميل (1780 - 1863م) وعبدالغفار الأخرس (1805 - 1874م) قد لا يتوافر له الحدّ الأعلى من إحكام البناء الشعري، وصقل الصياغة، وتجليات الشخصية الفنية المميزة، وإن كان له - دون ريب - فضل تمهيد الطريق أمام الطالعين من ناشئة الشعراء.
في مقدمة هؤلاء الطالعين كانت كوكبة الجيل الأكثر دويَّا في فضاءات الشعر العراقي الحديث مع العقود الأولى من القرن العشرين، وهي الكوكبة التي ضمت دراريُّها أمثال عبدالمحسن الكاظمي (1865 - 1935م) ومحمد رضا الشبيبي (1889 - 1966م) وأحمد الصافي النجفي (1897 - 1977م) ومحمد مهدي البصير (1895 - 1974م)، وإن كان أصفى أصواتها وأعلاها رنينًا لم يتحقق لأحد قدر ما تحقق لفرسيْ الرهان: جميل صدقي الزهاوي (1863 - 1936م)، ومعروف الرصافي (1875 - 1945م)، وإذا جاز أن نفسر صفاء الصوت الشعري وعلوّه لديهما فما ذلك إلا لما نحسّه في إبداعهما من الاستطراق المباشر بين الداخل والخارج، بين الهمّ الذاتي الخاص والهم القومي العام.
لقد وجد هذان الشاعران نفسيهما مع فجر القرن العشرين في مهبّ عواصف قومية وسياسية لم تشهدها الساحة العراقية من قبل: الانقلاب العثماني، إعلان الدستور، الحرب الكبرى، ثورة العشرين، إقامة الحكم الوطني عام 1921م، ومن ثم كان شعرهما مرآة عاكسة لهذه الأحداث التي هزت أركان مجتمعهما من الأساس، كما كانت نصوصهما الإبداعية - ونصوص كثير من مجايليهما - جدلاً حيّاً مع واقع الناس ومشاغلهم، ولهذا كان الناس يقرأون هذه النصوص لا لما فيها من تجليات البهاء الصياغي، بل لما فيها من حيوية القضايا، أما أصحاب هذه النصوص فكانوا - في التحليل الدقيق - دعاة إصلاح أكثر مما كانوا دعاة مذاهب جمالية، كانوا مبشّرين أكثر مما كانوا رواد طرائق فنية، وتلك على أية حال طبيعة المرحلة، ومقتضيات «الاستطراق» بين الهم القومي والحس الفني.
تستطيع أن تعثر على التطابق المنشود بين وعي القضية ووعي الفن لدى قطب القصيدة العربية اللاحق محمد مهدي الجواهري (1903 - 1997م) فقد تمكن من تحقيق المعادلة الصعبة بين «فرائض» الواقع و«فرائض» الشعر، بما وهبه من فحولة شعرية، وطاقة فنية عاتية، وبما أضافه من جَسْر الفجوة بين الذات والموضوع، فموضوعه هو ذاته، وذاته هي موضوعه، وداخله وخارجه وجها عملة فنية واحدة هي القصيدة بكل بهائها، وخلف ذلك، وأمامه، امتلاك لناصية اللغة الشعرية، وهيمنة تعبيرية أعانته على الإطالة والاختصار كيف شاء، والبسط والقبض كيف أراد، والتفصيل والاختزال حسبما يرغب، فالقصيدة - بين أنامله الدقيقة - بوتقة تنصهر فيها فلذات لغته لتتمثل أمام البصر خلقًا فنيّاً رائقاً بهيّاً.
(6)
مع مطالع القرن العشرين تتدرج بيئات الشعر العربي التي يرصدها هذا المعجم من مرحلة «الوعي بالذات» في منظورها الإحيائي إلى مرحلة «توكيد الذات» في إطارها الرومانسي، وربما لم يكن من قبيل التبسيط الشديد أن نشير إلى أبرز المنابع التي شكلت «الوجدان الجمعي» للشعراء العرب في هذه الحقبة، على تنوع مواطنهم، ونعني بهذه المنابع تجربة المهجريين، ثم تجربة الديوانيين، ثم تجربة الأبولّيين، وعلى حين كان إبداع «جبران خليل جبران» هو أبرز خيوط التجربة المهجرية التي ضفر منها الشعراء العرب رداءهم الرومانسي في الحقبة المشار إلىها، نرى الديوانيين يتميزون بجمعهم بين «الدعوة النقدية» ومحاولة «تحقيق النموذج الإبداعي»، وقد نجحوا بهذا وذاك في لفت الانتباه إلى منابع الثقافات الأجنبية في ما يتعلق بالشعر ونقده، كما أعانوا على تبصير الشعراء بالجانب الوجداني في التجربة الشعرية، وأكدوا مقولات أن الشعر قيمة إنسانية وليس مجرد قيمة لسانية، وأنه تعبير، وأن الشاعر الذي لا يعبر عن نفسه إنما هو إلى التنسيق أقرب منه إلى الابتكار، أما القصيدة فعمل فني تام يكمل فيه تصوير خاطر واحد أو خواطر متجانسة، كما يكمل التمثال بأعضائه، والصورة بأجزائها، واللحن الموسيقي بأنغامه، بحيث إذا اختلف الوضع أو تغيرت النسبة أخلّ ذلك بوحدة الصنعة وأفسدها.
ومن الملحوظ أن محاولات خليل مطران والديوانيين في التجديد إن كانت قد ارتكزت في الأصل على أساس من الاحتفاظ بقيم اللغة وأساليبها، فإن نظائرها في المهجر قد انطلقت، إلى حدّ ما، من بعض قيود اللغة، وكان من نتيجة ذلك شعر بدأ يفرض سيطرته على العالم العربي في أعقاب الحرب الكبرى الأولى، حتى إذا انهارت الرابطة القلمية في الشمال الأمريكي، وانتثر عقد زعماء العصبة الأندلسية في الجنوب، قامت في الشام ومصر محاولات شعرية هي وسط بين الاتجاه المطراني والديواني من جهة، والاتجاه المهجري من جهة أخرى، وتمثلت تلك المحاولات في آثار عمر أبي ريشة، وأمين نخلة، وسعيد عقل، وصلاح لبكي في سورية ولبنان، وحسن كامل الصيرفي، وبشر فارس، وإبراهيم ناجي في مصر، وفي شعرهم جميعًا يتجلّى ما في نقد وإبداعات الرواد من ألقٍ رومانسي يغمر ماهية الشعر ووظيفته معًا.
وليس من شك في أن هذا التصور الجديد لماهية الشعر قد أحدث من الدويّ في أرجاء الساحة الشعرية ما غمر القاصي والداني، وإذا كنا نلمح بعض أصداء هذا الدويّ في شعر الجزيرة العربية عند مبدع كحمزة شحاته (1909-1972) بحساسيته المفرطة والميل إلى التأمل والشكوى، والرؤيا الإنسانيّة للكون، فإنا واجدون نفس «الصدى الرومانسي» في الشعر العربي في سورية ولبنان فترة ما بعد الحرب الكبرى الأولى، كما نجد بعض آثاره في بيئة إبداعية أخرى كبيئة الشعر العربي في الخليج، وفي الكويت، على سبيل المثال لا الحصر، في نتاج شعراء مثل فهد العسكر (1917-1951م) وأحمد العدواني (1923-1990م) وفي شعرهما وشعر سواهما تتضح الأقانيم الرومانسية المعهودة من نزوع إلى التمرد، ورفض للواقع، والبحث الدؤوب عن الخلاص، هذا إلى محاولة تحرير المعجم الشعري من الصيغ الجاهزة، وإقامة بنية الصورة الشعرية على المزاوجة بين الماديات والمعنويات، والتراسل بين مجالات الحساسية، والميل إلى مجزوءات البحور، واتخاذ المقطوعة - أحيانًا - وحدة للقصيدة.
وحتى مناطق الأطراف في العالم العربي لم تكن بعيدة بمسامعها عن هذا الصدى الرومانسي فترة ما بين الحربين العالميتين، إلى درجة أن أبرز ممثلي الشعر المغاربي، وهو الشاعر المبدع أبو القاسم الشابي كان لا يفتأ يتملّى بما في نتاج العقاد من «صور الفن ومُثلِ الحياة» على حد تعبيره في إحدى رسائله، كما كان شديد الإعجاب بما في شعر العقاد من «فلسفة ناضجة في الحياة والناس، وغزل مطلول، ووصف شامل نفاذ، وسخر عميق»، ناهيك عن أن الشابي نفسه كان غصنًا رطبًا في دوحة جماعة أبولّو، تلك الجماعة التي كرعت من دنان الرومانسية حتى الثمالة، بل إنه أسهم في مجلتها الذائعة عبر ثمانية عشر شهرًا بثماني عشرة قصيدة، وتحقق في شعره وشعر بعض مواطنيه ما تحقق في شعر غيره من شعراء المشرق من تصعيد للنزعة الذاتية الرومانسية، وزحزحة الكثير من الثوابت الجمالية والفكرية التي اتكأت عليها القصيدة الكلاسيكية، وترطيب اللغة الشعرية بماء الحياة وأنداء الروح الشاعرة.
وحتى تلك المساحات من العالم العربي التي كانت قنوات اتصالها بالثقافات الأجنبية محدودة، نراها تتأثر بتلك «الرعشة الرومانسية» سماعًا كما تأثر بها غيرها عيانًا، صحيح أن الهاجس الرومانسي كان هاجسًا وافدًا، يخترق هيكل الشعر العربي دون جذور، ومن ثم لم يكن ليتسنى التشبع به إلا بإتقان اللغات الأجنبية التي حملته، ولم يكن ذلك متاحًا لبيئات الإبداع العربية بأقدار متساوية، ومع ذلك ينبغي ألا ننسى أن النقاد ورعاة الشعر في هذه البيئة أو تلك من مراكز التأثير في مصر أو الشام قاموا بهذا العبء عن إخوانهم، وحملوا إلىهم بطريقة غير مباشرة ما لم يصل إلىهم من روافد الثقافة الأجنبية بطريقة مباشرة، واقرأ - إن شئت - بعض ما أبدعه الزمخشري أو الفلالي أو قنديل أو غيرهم من شعراء السعودية بين الحربين العالميتين لترى كم تأثر هؤلاء بالمزاج النفسي الذي غلف مشاعر غيرهم من الشعراء العرب في هذه الآونة، فاصطبغت أشعارهم بأصباغ ذاتية واضحة، ولونت الكآبة قصائدهم، فهربوا منها إلى الطبيعة تارة وإلى عوالم الخيال تارات.
وما لحظناه من تفاوت التخوم الزمنية للنزعة الإحيائية بدءًا وانتهاء يصدق - إلى حد كبير - بالنسبة إلى النزعة الرومانسية في الشعر العربي، فإذا كان الهاجس الرومانسي قد ألمّ بالشعر المصري مع بدايات القرن العشرين، فإنه لم يتجلّ بكامل وضوحه في الشعر العربي في سورية ولبنان إلا مع مطالع الثلاثينيات في إبداعات عمر أبو ريشة وأنور العطار وإلىاس أبي شبكة وأضرابهم، وفي الوقت الذي بدأ فيه ينحسر عن تينك الساحتىن مع بداية الستينيات، تحت تأثير الهم السياسي بخاصة، فإنه بقي يترقرق بكامل عذوبته وشجنه في جنوبي البلاد (الأردن وفلسطين) عبر أصوات من أمثال فدوى طوقان، وكمال ناصر، ومطلق عبد الخالق، ولم تغادر هذه الأصوات ما فرضته على نفسها من أحاسيس العزلة والانكفاء إلا غداة هزيمة حزيران (1967)، حين راح الهم القومي يعصف بالنشيج الذاتي عصفًا.
على أن النزوع الرومانسي في شعر العقود الأولى من القرن المنصرم لم يكن نزوعًا صافيًا، ناهيك عن أن يكون نزوعًا مذهبيّاً كذلك الذي جربته الآداب الأوروبية. لقد أخضعته بيئات الإبداع العربي لمنطقها تارة، كما هجّنته ببعض من اللقاحات المذهبية الغريبة عنه تارة أخرى، ويبدو أن الشعر العربي - عند هذه النقطة - قد تعجل قطع مسافة التطور التي مرت بها الآداب الأوروبية، إذ ما كاد يخطو بضع خطوات على طريق الرومانسية بمعناها الحديث، حتى وجد الظروف مهيأة لكي يضيف إلى الرومانتيكية مؤثرًا جديدًا هو الاتجاه الرمزي مرة، والاتجاه الواقعي مرة أخرى، ولعل في هذا «التزامن المذهبي» تأويلاً لما نلحظه في الشعر العربي في لبنان وسورية خلال حقبة الثلاثينيات - من القرن الماضي - من ميل إلى جديلة فنية من الكلاسيكية والرومانسية آونة، وأخرى من الواقعية والرومانسية آونة ثانية، حتى حلا لبعض الباحثين أن يصور ذلك التلاقح باعتباره قوامًا جديدًا هو «الكلاسيكية الرومانسية»، أو هو «الرومانسية الواقعية»، مع ما في كلتا التسميتين من مفارقة ملحوظة، ثم لعل في هذا التزامن تأويلاً - أيضًا - لتزامن المنزع الكلاسيكي مع الهاجس الرومانسي في بيئات إبداعية أخرى مثل الكويت والسعودية، أو - حتى - جنوب الشام، ناهيك عن الشعر العربي في مصر الذي بدا فيه هذا التوالج في تمام وضوحه حين كان المتلقي لا يكاد يطالع قصيدة لأحمد الزين أو أحمد الكاشف أو لغيرهما من أتباع الإحياء الكلاسيكي إلا ريثما ينتقل إلى أخرى لعبدالرحمن شكري أو علي محمود طه أو إبراهيم ناجي أو سواهم من ذوي البوح الرومانسي الصريح.
(7)
والنقلة النوعية في تطور القصيدة العربية بدأت في أواخر الأربعينيات، واستمرت حتى الآن، عبر مراحل مختلفة، وبتجليات متفاوتة، عنينا بذلك حركة «الشعر الحر» كما ذاعت تسميته، أو شعر التفعيلة» إذا شئنا الدقة في الاصطلاح العلمي.
لقد كان النموذج المتبع في تشكيل القصيدة العربية حتى العقود الأولى من القرن المنصرم أن يلتزم الشاعر بالإيقاع والوزن كليهما، بحيث تتساوى الأبيات في نوع التفعيلة المتخذة أساسًا للإيقاع، وفي عدد التفعيلات الموجودة في كل بيت، وفي القوافي التي تنتهي بها هذه الأبيات. وقد كان هذا الالتزام - في حقيقته - استجابة ضرورية للظروف الثقافية والاجتماعية التي واكبت نشأة الشعر العربي، كما كان انسجامًا طبيعيّاً مع تلك الخصيصة الموسيقية التي يحسّ بها كل من يمارس اللغة العربية ممارسة تذوق ووعي وإدراك، ولعلنا لا ننسى في هذا المقام أن الشعر العربي في مراحله الأولى كان شعرًا سمعيّاً يعتمد على ما تلتقطه الأذن لا ما تطالعه العين، وذلك بسبب فشوّ الأمية وقلة استخدام الكتابة والقراءة أداتين للتعامل الأدبي، وحين اعتمد القوم على مسامعهم في الحكم على النص الشعري اكتسبت آذانهم مرانًا وقدرة على التمييز بين مراتب الكلام طبقًا لإيقاعه ووفقًا لجرعة موسيقاه، هذا بالإضافة إلى اعتبار آخر، وهو أن الشعر العربي خلال هذه الأطوار الباكرة كان شعرًا يتجه إلى الجماعة غالبًا، والتأثير في الجماعة يتطلب موسيقى خاصة واضحة الإيقاع، وليس أدعى لهذا الوضوح من تساوي الأبيات في أطوالها وقوافيها، فمن هذا التساوي تنشأ وحدة نغمية تعين جماعة المتلقين على تذوق الشعر تذوقًا يتفق وطبيعة إنشائه، كما يتفق مع الغاية المتوخاة منه.
ومن الإنصاف أن يقال إن ببعض شعراء العربية في مرحلة الرهو التي تضاءلت فيها القدرة على الإبداع الشعري الجيد، لم يفهموا من الشعر إلا أنه صياغة الكلام وفقًا لحركات وسواكن وقوافي مضبوطة، وكثيرًا ما كانوا ينظمون بلا شعور، وأحيانًا كانوا يضطرون إلى رتق مشاعرهم - إن وجدت - بألفاظ وجمل يكملون بها المسافة العروضية للبيت، وقد وضع هؤلاء «الشعراء العروضيون» أمام الأجيال اللاحقة نموذجًا شائهًا للقصيدة العربية، وأورثوهم - بردّ الفعل - نفورًا من كل نمط عروضي يقيد الوجدان بدلاً من أن يتقيد به.
ومن الإنصاف - كذلك - أن يقال إن بعض الظروف الثقافية والاجتماعية التي أحاطت بالشعر العربي عبر أطواره التاريخية قد تغيرت، وأن الاتجاه الشعري الجديد كان - في بعض جوانبه - انعكاسًا لهذا التغير، ناهيك عن الحرب العالمية الثانية وما أحدثته من آثار بعيدة المدى في شتى بنيات الحياة، ومن أهمها البنية الإبداعية، وقد واكب ذلك وعي فني منظم بتراث الشعر العالمي، وإدراك جديد لوظيفة العمل الشعري وصلته بالمتلقي وآلية انتقاله بعامة، فقد كانت القصيدة العربية في أطوارها التاريخية قصيدة مسموعة في غالب الأحيان، يقوم فيها الإلقاء بما تقوم به الكلمة المطبوعة في العصر الحديث. ويفترض هذا الإلقاء أن من توجه إلىه القصيدة ليس فردًا أو أفرادًا، وإنما هو جمع أو محفل من الناس يتطلب التأثير فيه موسيقى خاصة، رتيبة، مجلجلة، واضحة الإيقاع. ثم أصبحت الكلمة الشعرية بتغير المناخ الاجتماعي والثقافي كلمة مقروءة أكثر مما هي كلمة مسموعة، وغدا الشاعر يتجه إلى وجدان الفرد ومشاعره الكامنة بعد أن كان يتجه إلى الجماعة مباشرة، أو قل إنه أصبح يمارس تأثيره في الجماعة من خلال مخاطبته لإنسانية الفرد وعواطفه العليا، وفي موقف كهذا يغدو كيان القصيدة أكثر ذاتية واستقلالاً، وتقل أهمية الموسيقى الجهيرة بقدر ما تعظم أهمية الإيقاع المتمثل أساسًا في وحدة التفعيلة التي استعاض بها الشاعر الحديث عن وحدة البيت، ومن ثم أصبح النص الشعري يتمتع بقدر كبير من المرونة من حيث طول البيت أو قصره، ومن حيث التزام القافية أو إرسالها، وغدا في هذا وذاك مرهونًا بالمعنى ومقتضيات التعبير الشعري فحسب.
وإذا كانت هذه السمات فارقة للتجربة الشعرية الجديدة، فإنها - في ذات الوقت - سمات جامعة من حيث انتشرت في أطراف الشعر العربي على آماد متقاربة، وبنسب متفاوتة، متحركة من مركز الدائرة في العراق ومصر ولبنان إلى فضائها في جنوب الشام وشبه الجزيرة العربية، ثم إلى حوافها في بلاد المغرب العربي، مصطبغة في كل صقع بضغوط المكان وأثقال البيئة، متدرجة في حجم الجديد الذي تأخذه من الحركة أو تطرحه، بحكم اختلاف التكوين والرؤية والتوجه، وبحكم تفاوت درجات حس المغامرة ورغبة التجريب، فعلى حين تقنعت الدفعة الأولى للقصيدة الحديثة في العراق برداء شبه عروضي، نسجته أنامل نازك الملائكة، حين رأت أن التجربة الجديدة تقوم على أساس من العروض الخليلي؛ لأنها لاحظت ما تعمد إلىه الأذن العربية من إيفاء البحور حينًا، واجتزائها أو شطرها أو نهكها أحيانًا، فلم تزد عن أن جمعت بين هذه جميعًا في القصيدة الواحدة، مع التزام بقية القواعد العروضية، نرى التجربة نفسها تتخذ في مصر ولبنان طابعًا جماليّاً لا يعد التطور الشكلي سوى عنصر واحد من العناصر التي جدلت نسيج الشعر الجديد، هذا في الوقت الذي ارتهنت فيه حداثة التجربة عند بعض البيئات بحداثة المضمون على نحو ما نلحظ في النموذج الكويتي الذي اقترن فيه التجديد الشكلي بمستحدثات النقلة الحضارية وتداعياتها ممثلة في المفارقة بين الماضي والحاضر، وبين البيئة القديمة والمدينة، بكل ما يقترن بهذه المفارقة من توتر وحيرة وصراع.
ولسنا في مقام مقاضاة النموذج الجديد أو تقويم حصاده، بعد أن انصرم على ظهوره أكثر من نصف قرن، ولكن الذي لا ريب فيه أن هذه النقلة النوعية كانت ضرورة ثقافية أكثر مما كانت ضرورة فنية، بعد أن باتت طرائق التعبير قاصرة عن استيعاب الواقع المرير الذي واكب وأعقب الحرب العالمية الثانية، وإذا كانت هذه النّقلة قد أنجبت عبر فيضها الدافق شعراء من أمثال نزار قباني وخليل حاوي وأدونيس في الشام بجناحيه، وعبدالرحمن الشرقاوي وصلاح عبدالصبور وأحمد حجازي وفاروق شوشة في مصر، ومحمود درويش وسميح القاسم وتوفيق زياد في فلسطين، فإن شق التربة، وتمهيد الساحة الفنية مدين بكثير من جهد الريادة لبدر السياب ونازك الملائكة وعبدالوهاب البياتي، هذا الثالوث الذي أنجز لقصيدة التفعيلة مستوى متميزًا من التعبير والتخيّل، وعبّد الدرب لفيالق ممن عاصرهم وأعقبهم من أمثال بلند الحيدري وشاذل طاقة وسعدي يوسف وغيرهم.
وإذا كان لنازك الملائكة فتح نقدي تنظيري يوازي - ربما - جهدها الإبداعي، فإن فضيلة السياب التي قلّما يشركه فيها سواه تنشطر - بالعدل - إلى شطرين: لغة شعرية تلتبس بالرؤيا الفنية وتقتنصها حتى تسكن إليها، وإيقاع يسري في أعصاب القصيدة سريان النسغ في شرايين الزهر، بما في ذلك استثمار رنين القوافي دون عنت أو قهر، ناهيك عن سيطرة واعية كاملة على الموروث الأسطوري والتاريخي.
أما البياتي فتقنياته الأدائية تمضي في طريق تحديث معمار القصيدة إلى آماد تمزج بين الواقع والحلم والشطح الصوفي والتهويمات الرمزية والانتقالات المفاجئة التي لا رابطة بينها سوى منطق النفس، ولعل استخدامه المحكم لآلية القناع بكل تنويعاتها بين المتبني وأبي العلاء والحلاج وسواهم، كان هو القبس الملهم لشعراء الحداثة في إطارها المعاصر. وبعد، فإن هذا المعجم الذي يضم بين دفتيه مذخور الشعر العربي عبر القرنين المنصرمين يجلو الماهية المشتركة لهذا الشعر، ويؤكد تناغم القواسم الفنية التي اتّسم بها، وربما كان من أبرز هذه القواسم تواكب الأطر الإبداعية في بيئات الشعر العربي على تنوعها، دون أن ينفي أحدها الآخر أو يلغيه. فمع الغلبة الواضحة للديباجة العمودية خصوصًا في شعر القرن التاسع عشر وحتى منتصف القرن العشرين، نجد كثيرًا من الأصوات المدوّية في إطار التفعيلة ثم في إطار قصيدة النثر، يتفاوت حجم كل منها بتفاوت حظوظ بيئات الإبداع العربي من الثقافة التراثية من جانب، ومن الثقافات الأجنبية من جانب آخر، الأمر الذي يقطع بأن ساحة الشعر العربي في الحقبة الزمنية لهذا المعجم لم تفقد خاصية التكامل حتى وهي تجتاز مرحلة اختلاف الأطر والتجارب، وربما كان هذا جميعه في صالح التراث الإبداعي والذائقة الشعرية معًا؛ ومن هنا تنبع الأهمية التاريخية لهذا المعجم؛ لأنه يسهم في حفظ عيون هذا التراث من ناحية، كما أنه يقدم لهذه الذائقة ما تستطيبه من زاد الأشكال الفنية دون تضييق أو مصادرة أو انتقاء، ناهيك عما سيمنحه للدارسين والباحثين في الشعريات العربية من مادة خصبة لا ينقصها التنوع والثراء، وكفى بهذا مأثرة تضاف إلى سجل المآثر التي يحظى بها هذا المعجم الفريد، الذي يمكن حسبانه واسطة العقد في جِيد الثقافة العربية المعاصرة.

الدكتور محمد فتوح أحمد