إلـمــــامـــــة

عام واحد مضى على إصدار المؤسسة معجمها الأول «معجم البابطين للشعراء العرب المعاصرين» حينما بدأنا عام 1997 التخطيط لإصدار معجم يرصد ويجمع شعراء العربية في العصر الحديث.

كانت البداية عندما قامت المؤسسة باستشارة بعض المثقفين حول المشروعات التي يمكن أن تنفذها بعد صدور معجم المعاصرين «الأحياء»، وقد وردت اقتراحات كثيرة قامت المؤسسة بدراستها واختارت ثلاثة مشروعات منها، ثم استقر الرأي على تنفيذ معجم لشعراء العصر الحديث من الراحلين ليكون إضافة إلى العمل المعجمي الذي بدأته المؤسسة عام 1996م، وليشكل حلقة في حلم كبير يتمثل في رغبة المؤسسة رصد النتاج الشعري لشعراء العربية في مختلف العصور، وذلك عبر سلسلة من المعاجم التي من شأنها أن تسد فراغًا في المكتبة العربية، بما يحقق أكبر فائدة لديوان العرب والمهتمين به.
وفي اجتماع مجلس أمناء المؤسسة المنعقد بتاريخ 27/2/1997 ناقش الأعضاء وحددوا بعض الملامح الرئيسية للمعجم المقترح، وقدمت الأمانة العامة نتائج بحثها في هذا الاتجاه.
وبعد جملة من الاجتماعات التحضيرية لوضع تصور لخطة الإنجاز، بدأنا العمل في أجواء تتفاءل بأن العمل سيكون أقل صعوبة من سابقه (معجم البابطين للشعراء العرب المعاصرين) لأن إنجاز ذلك المعجم - الذي صدر في ستة أجزاء وضم تراجم ومختارات لأكثر من ألف وستمائة شاعر عربي من الأحياء في طبعته الأولى - وفَّر خبرة يصعب تجاهلها، فضلا عن كثافة المحتوى العربي على شبكة الانترنت في السنوات الاخيرة مقارنة بما كانت عليه عند إعداد المعجم الأول، مع الثراء في قواعد المعلومات المتخصصة التي كانت عاملا مبشرًا بما يمكن أن نحصل عليه من معلومات غزيرة عن الشعراء، كما قدرنا أننا سوف نحصل على مادة وفيرة من الموسوعات والدواوين والدراسات والتراجم في الصحف والمجلات القديمة؛ وأن بوسعنا العودة للدواوين والمظان الأصلية للمادة الشعرية، لكن ذلك التقدير لم يكن دقيقًا، إذ واجهنا مشقة في العثور على بغيتنا، فالكثير من الجهات لم تتعاون بكل أسف، والكثير من المظان لم تتوافر، ولم تعد متاحة للإفادة منها.
كانت المؤسسة قد شكلت دائرتين أساسيتين لإنجاز هذا المعجم الرائد: الأولى هي مكتب التحرير، والدائرة الثانية (وهي الدائرة الأم للعمل) الهيئة الاستشارية للمعجم التي يرأسها الشاعر عبدالعزيز سعود البابطين رئيس مجلس الأمناء.
اتصل عملنا في الهىئة الاستشارية مع مجلس أمناء المؤسسة، فكنا نعرض في اجتماعاته الدورية تفاصيل العمل وتطوراته، وتقارير حول خطوات الإنجاز، ونناقش ما يواجه فِرَقَ التنفيذ من معوقات، فكان لمجلس الأمناء مخارج لمنغلقات، وحلولٌ لكثير من المشكلات.
ومع الدائرتين الأساسيتين (مكتب التحرير والهيئة الاستشارية) كانت هناك مجموعات عمل في مقدمتها فريق العمل التنفيذي في مكتب الكويت الذي كان بمثابة المركز الذي يستقبل الخامات والمواد الأولية والمصادر فيعمل على ترتيبها وتهيئتها، والدفع بها إلى مساراتها المتفق عليها والأشخاص المعنيين بالتعامل معها، ثم تعاد إليهم مرة أخرى مثقلة بكثير من التوجيهات والملاحظات، فيعملون على استيفائها ومتابعة تنفيذها. وتحمل هذا الفريق عبء العناية بتفاصيل العمل ومساراته، كما تولى عرض الصورة بكافة جوانبها أمام مكتب التحرير والهيئة الاستشارية.
ومثل كل المبادرات الكبرى فقد أُخضع مشروع المعجم لكثير من الجدل والنقاش من أجل بلوغ الصورة التي سيكون عليها، فبحثنا خلال أكثر من مرحلة من مراحل العمل، في الفترة الزمنية التي يغطيها المعجم، حتى اتفق على أن تكون بين عامي 1801 - 2000م، وأن يضم المعجم شعراء العربية بدلاً من الاكتفاء بالشعراء العرب، وصاحَبَ ذلك المفاضلة بين أكثر من اسم للمعجم أذكر من بينها: «معجم البابطين للشعراء العرب في القرنين التاسع عشر والعشرين»، و«معجم البابطين للشعراء العرب»، و«معجم البابطين للشعراء العرب في العصر الحديث»، وفي النهاية استقر الرأي على اسمه الحالي: «معجم البابطين لشعراء العربية في القرنين التاسع عشر والعشرين» الذي يشير إلى أنه يضم تراجم للغالبية الساحقة من الشعراء الذين كتبوا بالعربية سواء أكانوا شعراء عربًا أم من غير العرب، فأتيحت الفرصة لاحتواء الشعراء الأفارقة والآسيويين والأتراك، وغيرهم ممن أبدعوا شعرهم بالعربية.
وبعد حوارات ساخنة كان قرار مجلس الأمناء بأن يكون المعجم تسجيليّاً وليس تقييميّاً، بمعنى أن يدرك كل الشعراء الراحلين الذين لونوا زمانهم خلال مائتي عام بصور شعرية سواء منهم من وجد له ديوان مطبوع أو مخطوط أو لم يوجد.
لاشك أن ذلك قد وضع مكتب التحرير والهيئة الاستشارية أمام مسؤولية دقيقة، لأن ذلك أدى إلى تلقي أشعار الـمُقلِّين والمجهولين وفقا لما يتوفر منها بعد البحث والتنقيب، وكان على هيئة المعجم إبراز الشعر الجيد ضمن النماذج المختارة التي كانت ترد أحيانًا دون العدد المطلوب خاصة لشعراء القرن التاسع عشر، التي وجدنا فيها أيضًا شعراء كباراً لم تبرز أعمالهم، حيث لم تكن الطباعة متاحة آنذاك، ولم يدون الشعر بشكل وافٍ إلا بعد انتشار المطابع بشكل واسع مع بداية النصف الثاني من القرن العشرين.
لقد كانت مسألةً غايةً في الصعوبة أن تتجول باحثًا في منحنيات وزقاقات مائتي عام، متوخياً الدقة ومراقبًا لأمانة المصادر هادفاً إلى تسجيل وتوثيق ما يمكن التوصل إليه من تراجم الشعراء، وفي نفس الوقت إثراء المعجم بأفضل النماذج الشعرية، تلافياً لنشر الضعيف فنياً ما أمكن ذلك، وتَعيَّن علينا أن نحقق هذا الهدف وفق منهجية معتمدة ومدروسة وقابلة للتطبيق، وفي البداية وضع المستشار الأول للمعجم الأستاذ الدكتور أحمد مختار عمر تصورًا للمعجم وخطة تنفيذه، فاعتمدها مجلس الأمناء بعد أن حَيَّا الجهد المميز والأمين الذي بُذِل في إعدادها.
تطلبت مرحلة جمع النصوص والتعريف بحيوات الشعراء، الاستعانة بأكثر من خمسمائة باحث أثبتنا أسماءهم في نهاية المعجم تقديرًا لما بذلوا من جهد واضح القسمات، إذ غطوا قارات العالم ومناطقها بما فيها المناطق النائية والريفية والبادية مستخدمين جميع وسائل النقل المتاحة، البدائية منها والحديثة، وفي معظم الحالات كان هؤلاء الباحثون المصدر الرئيسي للمادة الأساسية التي نخضعها للفحص ونوجهها لإغناء المعجم، وقد أدى كثير منهم أداءً رفيعاً يستحق الإشادة، وتحملوا مشقة تنفيذ توجيهات مكتب التحرير والهيئة الاستشارية في إعادة الاتصال بمصادر المعلومات أو الحصول على بيانات إضافية أو التحقق فيما حصلوا عليه من تراجم وتفاصيل السيرة الذاتية، وأنجزوا ذلك بهمة عالية.
من ناحية أخرى اتجه فريق من الباحثين للعمل في مجالين كالتالي:
> الأول: البحث الأرشيفي، وفيه يستقصي الباحث ما ورد في الكتب والرسائل الجامعية والأبحاث المنشورة والدوريات الحديثة والقديمة مما يتعلق بالشعر والشعراء.
> الثاني: البحث الميداني، حيث يقوم باحثو المؤسسة بعملية مسح شامل لكل أرجاء الوطن العربي بما في ذلك القرى والنجوع والكفور والمناطق الجبلية والصحارى والجزر والأديرة للوصول إلى الشعراء غير المعروفين.
ولقد شهدت السنوات الخمس الأولى متابعة دقيقة لأداء الباحثين، واستُبدل منهم من لم يتمكن من أداء مهامه على الوجه الأكمل، وقد تمكن الباحثون من العثور على مخطوطات لشعراء لهم قدر، لم ينشر لهم من قبل، إما لظروف خاصة أو لندرة وسائل النشر في زمنهم، وربما لأن بعضا منهم - لسبب أو لآخر - لم يكن يناسبه أن يعرفه الناس بشعره.
واستعانت المؤسسة أيضاً بعشرات من المصححين والمراجعين المؤهلين وموجهي اللغة العربية ومدرسيها، وقد تدارسنا في البداية، الأفضلية بين توجهين: الأول: تكوين فرق تحرير إقليمية تضم مجموعة من الباحثين، ويتولى كل فريق تحرير الاستمارات الخاصة بإقليمه. أما التوجه الثاني فهو تكوين فريق مركزي للتحرير يعمل في الكويت تحت إشراف الأمانة العامة، ويتولى تحرير جميع الاستمارات، فكان الانحياز للخيار الثاني حيث تولى تحرير الاستمارات هيئة مركزية موحدة لجميع الأقطار العربية للحفاظ على وحدة النَسَق ودقة العمل، وهذه الهيئة هي مكتب التحرير مع فريق العمل التنفيذي في الأمانة العامة للمؤسسة.
وفي الحقيقة فإن التنفيذ قادنا أحيانا إلى الابتعاد عن الخطة الموضوعة، فالعبء التنفيذي لم يكن هينًا.. كما اكتشفنا بالتجربة والممارسة أن كثيرًا من التصورات النظرية قد تكون صعبة التنفيذ أو مستحيلة، فطرحت تصورات أخرى حققت الغاية المتوخاة.
كان التحدي الأكبر عندما أيقنا بأن كثيرًا من الجهات التي افترضنا أنها سند لنا وظهير، لم تبد رغبة في التعاون، خلافًا لتصورنا المبني على حسن النية، وأن كثيراً من المظان التي تطلعنا إليها لم تعد متاحة للاستفادة منها! واجهنا هذه الحقيقة الأليمة وعرضناها أمام زملائنا في مكتب التحرير ثم في الهيئة الاستشارية للمعجم ثم في مجلس الأمناء، فكان الرد من الجميع بأن هذا أمر متوقع، وكان لصاحب المشروع - مموله الوحيد الساهر عليه سنة بعد سنة وشهرًا بعد شهر وأسبوعًا بعد أسبوع وساعة بعد ساعة؛ وأعني به الشاعر عبدالعزيز سعود البابطين رئيس مجلس الأمناء رئيس هيئة المعجم - الدور المؤثر عندما حثنا في كل مراحل العمل على الاعتماد على النفس والمثابرة والتصميم والسعي بكل الطرق، وفتح أمامنا آفاقًا لا حدود لها، ويسّر لنا الاستعانة بالخبرات والكفاءات أينما كانت.. وهكذا راسلنا الجامعات، واتحادات الكتاب، ووزارات الثقافة، ونخب من المثقفين، والأكاديميين المختصين، ونشرنا في الصحف، وقمنا بجولات في البلاد العربية، كما قمنا بشراء عدد كبير جدًا من المصادر والمراجع.. واعتمدنا في البداية على مجموعة الأخ عبدالكريم سعود البابطين التي كانت في منزل شقيقه رئيس المؤسسة قبل أن تدخل الخدمة في «مكتبة البابطين المركزية للشعر العربي» إهداءً منه للمكتبة ولمحبي الشعر والأدب.
ومجموعة الأستاذ عبدالكريم سعود البابطين هي مجموعة غنية تضم عشرات الآلاف من الكتب الأساسية في اللغة والشعر والأدب، كما تضم عددًا كبيرًا من الدوريات والصحف في طبعاتها الأصلية.. فكان أن لجأنا إليها واستخرجنا منها أسماء الشعراء التي وردت فيها أخبارهم وتراجمهم ومختارات من أشعارهم، وكوَّنَّا قائمتنا الأولى من هذه المظان، أضفنا إليها قائمةً بأسماء الشعراء الذين وردوا في أعلام «الزركلي» ومعجم «كحالة» والدراسات الأدبية «لداغر» وكتب أخرى كثيرة اهتمت بالتأليف قديمًا وحديثًا في السير والتراجم للأدباء والشعراء والكتاب في كافة الأقطار العربية، ثم توسعنا قليلاً قليلاً عندما لجأنا للمكتبات العامة والخاصة، وللمجلات القديمة التي جرى نشرها في طبعات جديدة مصورة، كما تجمعت لدينا أيضاً قوائم إضافية أرسلها لمكتب المؤسسة الزملاء أعضاء مجلس الأمناء وأعضاء الهيئة الاستشارية للمعجم ومديرو المكاتب في الخارج وبعض الشخصيات الثقافية العربية المعروفة.
وسعينا للحصول على مزيد من المعلومات عن الشعراء في رسائل الماجستير والدكتوراه، وتوسعت دائرة الجمع لتغطي كافة الجامعات في الدول العربية، وغيرها بما في ذلك معهد الدراسات الإفريقية، ومكتبة الكونجرس، والجامعة الامريكية في بيروت، والجامعات الأجنبية التي تضم أقساماً للاستشراق والدراسات العربية، وحصلنا على بعض صور المخطوطات والدراسات من هيئات علمية وشخصيات في المناطق الصعبة مثل تركيا والهند ونيجيريا.
قبل كل ذلك أصدرت المؤسسة نموذجًا تجريبيًا للمعجم بهدف تقديم صورة عن شكله وتسليط الضوء على فكرته وأهدافه ولإثراء خطة العمل بآراء الشعراء وتلقي ملاحظات الأوساط الثقافية والباحثين والأخذ بالمناسب منها، وبدأ توزيع النموذج التجريبي في احتفال المؤسسة بدورتها السادسة (دورة الأخطل الصغير) في بيروت عام 1998م.
هذا المعجم التجريبي المصّغر ضمّ ترجمة لأربعين شاعرًا، مع عرض لنماذج من إنتاجهم الشعري، منهم 25 شاعرًا رحلوا في القرن العشرين، و15 شاعرًا رحلوا في القرن التاسع عشر، ومن بين من ضمهم النموذج التجريبي للمعجم: ترجمة لأحمد شوقي، والأمير عبدالقادر الجزائري، وإبراهيم اليازجي، وباحثة البادية، وإبراهيم طوقان، وإيليا أبو ماضي، وبدر شاكر السياب، وأمل دنقل. وأرفق في نهاية صفحاته استمارة استطلاع رأي مقسمة إلى ملاحظات على الشكل وأخرى على المضمون، وقد تلقينا إثر توزيع المعجم (النموذج) بعض الردود وفق هذه الاستمارة، فأخذنا ببعض المقترحات بما يتناسب وخطة العمل والأهداف الأساسية للمعجم، وقد تناولت بعض وسائل الإعلام العربية هذا النموذج لافتة إلى قيمته وأهميته.
وقد حرصنا عند إعداد استمارات جمع المعلومات أن تحقق الإلمام الكامل بكل ما ينبغي أن يضمه المعجم عن الشاعر، وبالطبع كنا ندرك صعوبة استيفاء كافة البيانات المطلوبة لبعض الشعراء، مثل الصورة الفوتوغرافية، أو النموذج الخطي بيد المترجم له، خاصة أولئك الذين عاشوا حياة منزوية وليست لهم سير ذاتية متداولة، لذلك اتُّخِذَ قرار بالاتصال بعائلات الشعراء وتوفير ما يمكن توفيره من معلومات وصور وقصائد مخطوطة، كما اتخذنا قرارًا بالتنازل عن بعض بيانات استمارة الترجمة لمن لا يتوفر لهم كل البيانات، وكان لرئيس مجلس الأمناء رؤية مستقبلية في هذه الجزئية، حيث نبهنا دوماً إلى أنه لو عجزنا عن الحصول على نماذج شعرية وافية فلا مانع من تثبيت ما حصلنا عليه حتى لو كان قليلاً ليتسنى للباحثين مستقبلاً البحث في سبيل اكتشاف المزيد، وبنفس الرؤية تم توجيه الباحثين المكلفين بكتابة التراجم لتوصيل ما يتوافر لديهم من معلومات حتى لو قدروا أنها غير مهمة، وطُلب من الباحث أن يرفق بترجمته للشاعر عشرة نماذج من شعره مرتبة ترتيبًا تنازلياً من حيث القيمة الفنية، وبحيث تغطي أغراض الشعر وتمثل عصرها.
وفي فترة لاحقة، بموافقة من مكتب التحرير والهيئة الاستشارية للمعجم تطور عمل فريق المعجم في الأمانة العامة من مجرد متلقٍ للاستمارات التي يحررها الباحثون في الأقطار العربية وتقييمها إلى دور المشارك في عملية إغناء المعجم، وقد أمكن للفريق أن يقوم بهذا الدور بعد اقتناء الكثير من المراجع المهمة التي أصبحت مستندًا أساسياً في التحقق من بعض المعلومات، مما يَسَّرَ إنشاء قاعدة للمعلومات أدخلت بياناتها في جهاز الكمبيوتر، وتم الاستفادة منها في استكمال قصائد ومعلومات لبعض الشعراء، وفي تحرير استمارات جديدة لشعراء لم يصل إليهم الباحثون. وخلال سنوات من العمل تم تفريغ مئات من مجلدات الدوريات العربية ومن كتب التراجم والمختارات الشعرية، بحيث صورت القصائد والتراجم الخاصة بالشعراء، وبصفة أساسية الشعراء غير المشهورين، رُتّبت هذه المصورات وأدخلت بياناتها في الكمبيوتر، وقد تجاوزت جملة الشعراء الذين أدخلت لهم قصائد أو تراجم في هذا البرنامج أكثر من أحد عشر ألف شاعرٍ، هم حصيلة عمل دؤوب لسنوات ليست بالقصيرة، وقد أجازت هيئة المعجم أكثر من ثمانية آلاف شاعر منهم، في حين سكتت عن ما يقارب ثلاثة آلاف شاعر لأسباب مختلفة، كضعف الشعر ضعفًا بينًا، أو قلة النماذج الشعرية قلة واضحة، أو لعامية لغة القصائد، أو عدم صلاحية المادة من الناحية الموضوعية لاحتوائها على سبّ أو قذف، ولعدم وجود نماذج أخرى غيرها للشاعر.
وهؤلاء الذين لم يستوعبهم المعجم عمدنا إلى وضعهم تحت مجهر المهتمين والباحثين، وذلك بجمعهم في قائمة ينتهي بها المجلد الأخير من المعجم، وبالطبع اقتصرت هذه القائمة على من ثبت أنهم شعراء، ولكن لم يصلنا من أشعارهم وسيرتهم ما يكفي لمجاورة رفقائهم على صفحات المعجم.
وكانت هناك صور لحالات غير أمينة دفعتنا إلى أن ندقق في كل ما يرد إلينا لدرجة التوجس والشك أحياناً ، فلم نكن نسلّم بصدقية الاستمارات إلا بعد أن نجري عليها جملة من إجراءات الفحص والتدقيق، ولجأنا لإعادة كثير من الاستمارات التي ترد إلينا من إقليم ما إلى خبراء الشعر فيه لفحصها والتأكد من صحتها، وعاد لنا هذا الإجراء بكثير من الإيجابية، حيث أدى إلى إيقاف التعامل مع بعض الباحثين، كما نبهنا بعض المختصين إلى أخطاء غير مقصودة، فيما كانت بعض الأمور تسلمنا إلى الحيرة والضيق أحياناً، ولكننا حين نكتشفها نشعر بمزيد من الثقة في صواب المنهج الذي ألزمنا أنفسنا به.
كما أخضعت بعض القياسات إلى الفحص والدراسة، ومنها ما لاحظناه من عدم انسجام عدد الشعراء في إقليم ما أو محافظة بعينها مع كبر مساحتها وكثافتها البشرية، وتلمسنا بعض الأسباب، منها تفشي الأمية أو تكاسل الباحث المختص بذلك الإقليم، ورأينا في كثير من الأحوال تكثيف عملية الحصول على التراجم، أو النهوض بالبحث في المصادر، أوتوجيه بعض الباحثين الإضافيين في المناطق الضعيفة.
وبذلك أمكن النهوض بعدد الشعراء الذين يضمهم المعجم الى أكثر من ثمانية آلاف شاعر، وهو عدد لم يكن المشرفون على المعجم يتوقعون بلوغه عند بدء العمل بهذا المشروع.
أما فيما يخص المراجعة النهائية فقد تمت وفق آلية محددة، حيث تحال الاستمارة بعد انتهاء تحريرها وطباعتها وتصحيحها التصحيح الأولي إلى الأستاذ الدكتور محمد حسن عبدالله لمراجعة السيرة، ثم إلى الأستاذ الدكتور محمد فتوح أحمد لمراجعة النماذج الشعرية، ثم للأستاذ الدكتور سليمان الشطي للاستدراك إن وجد، وأخيراً رئيس مكتب التحرير للنظرة الفاحصة الأخيرة، وعندها تكون قد استَكمَلَت دورتها وأُقرَّت ليباشر فريق العمل التنفيذي بوضعها في صورتها النهائية بأخذ ملاحظات أعضاء مكتب التحرير كلها والتقيد بها.
أما أوجه المصاعب الأخرى التي واجهها فريق عمل المعجم في إنجاز مهمته، فأذكر منها ما يخص الأسماء وتحولاتها في بعض البلدان العربية، إذ إن بعض الأسماء كما في العراق واليمن قد تنسب إلى القبيلة أو البلاد التي أقام بها، أو الأسرة، أو المهنة، وقد ذكرت بعض الأسماء في مصدر بنسب وفي مصدر آخر بنسب مختلف، أو قد تكون بعض الأسماء مركبة أو لها كنى، فتذكر مرة بكناها وأخرى بغير ذلك، مما يوهم بأن الشخص الواحد هو أكثر من شخص.
كما أن بعض البلدان (مثل موريتانيا هذا البلد العريق المليء بالأدباء والشعراء) تكثر فيها الأسماء المتشابهة والمتطابقة مما جعل مهمة المراجع من أصعب المهمات، وفي هذا البلد خاصة عمدنا إلى توثيق الاستمارة من قبل ثلاثة من كبار المختصين هناك توخيًا لمزيد من الدقة، ولمعالجة بعض السلبيات، ومنها صعوبة قراءة الخطوط وفك رموزها، وهي مشكلة واجهتنا أيضا في الاستمارات الواردة لقدامى الشعراء من الأقطار المغاربية الشقيقة، حيث الخط المغاربي القديم، وتطلب الأمر في كثير من الأحيان إرسالها إلى أصدقاء المؤسسة في تلك الأقطار لإعادة كتابتها بالخط المتداول راهنا، فتمكنا من تجاوز العقبة وإحياء كثير من الأسماء، كما وضعنا قائمة أطلقنا عليها «قائمة مجهولي الهوية» وتكونت في البداية من أربعمائة واثنين وخمسين شاعرًا، وعالجنا ذلك بالمثابرة والاستقصاء، واستغرق ذلك منّا جهدًا وزمنًا.
ولست أنكر أننا عانينا في مراحل معينة من ضغط العمل أو بطء الأداء، فكنا نتغلب على هذا بتكوين فرق عمل مصغرة، وإيجاد معاونين لمستشار المعجم ومعاونين لمحرر السيرة، وساعد في ذلك مكتب التحرير الذي عقد جلسات متعاقبة، وغالباً ما يكون الاجتماع في عدة جلسات على مدار الساعة ولعدة أيام.
كذلك كانت جلساتنا في الهيئة الاستشارية ثرية نرصد فيها كل ما يدور، ونعالج أي خلل في مفاصل العمل .. نتصدى لاستفسارات مكتب التحرير والمجموعة المنفذة، ونساهم في إنضاج الفكرة وبلورتها، ونجيب على الأسئلة التي تنشأ أثناء التنفيذ، ونعدل ونبدل مرارًا في نسقية السيرة ومفرداتها وكيفية التعامل مع ما يطرأ من مشكلات. كان علينا مواجهة شُحِّ المصادر والمراجع في بعض الأقطار، وصعوبة الاتصال بأقطار أخرى، وكان علينا أن نجد مخارج لكل مغلق، وكان علينا الاستعانة بأصدقاء المؤسسة وهم كثر والحمد لله، كما كان علينا أن نبعث بالوفود والمبعوثين لسائر الأقطار، ونستنجد بأصحاب الخبرة والدراية، ومثال ذلك عضو الهيئة الاستشارية الدكتور محمد صالح الجابري؛ فقد كان عونًا مهما للمعجم من خلال شبكة علاقاته الواسعة نتيجة عمله في الموسوعة التي تصدرها المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم، وحرصنا في مكتب التحرير على أن نوجد شبكة من الاتصالات الميدانية بالأقاليم والمدن والقرى والأرياف لنتمكن ما وسعنا ذلك من الوصول الى أقصى ما نستطيع الوصول إليه، ولو تيسر لأحد الاطلاع على محاضر الاجتماعات واللقاءات والتقارير الميدانية لأدرك صعوبة المهمة التي كان من الممكن أن تثني أية مجموعة عن مواصلة التقدم إلى الأمام، لولا العزيمة الفولاذية التي يتمتع بها الأخ عبدالعزيز سعود البابطين ويواجهنا بها، فهو مثابر وصبور وقوي في مواجهة الإحباطات، وهو عادة لا يكتفي بالكلام، وإنما يقرنه بالعمل وبالاستعداد لتذليل كل عقبة مهما كانت صعوبتها: مالية أو عملية: فهو مبادر من طراز نادر، لا يبالي بالمصاعب، بل يتحداها ويتغلب عليها بعزيمة صادقة لا تعرف أنصاف الحلول. إنه مستعد للاتصال بأي شخص أينما كان، ومستعد للسفر للقاء أي مسؤول مؤثر أينما كان موقعه أول كانت وظيفته، لا أبالغ إذا قلت إنه مستعد للسفر للقاء باحث أو مندوب أو شاعر في أي مكان في العالم.. لذا فإننا لم نكن نملك رغم القنوط في أحيان كثيرة واليأس، إلا معاودة النشاط وبهمَّة وحماسة، فقد ذلل لنا الكثير من الصعاب، واختصر الكثير من الوقت، لموافقته على كل متطلبات العمل بأريحية معهودة فيه، وبسخاء غير محدود.
وهكذا مضى العمل في المعجم حتى استوى على سوقه بفضل «فورة الطموح» التي بثها صاحب المؤسسة والمشروع، وبفضل عزيمة هؤلاء الذين رافقوا بزوغ حلم المؤسسة لإنجاز مشروع بهذه الضخامة والاتساع والتشعب، مما تطلب رهطًا جادًا من أولي العزم والهمم، وهم جنود المعجم الذين أبلوا بلاء حسنًا، وإذا كان لي من إشادة خاصة بحكم التصاقي التام بهذا العمل بشكل يومي وعلى مدار السنوات كلها واطلاعي على تفاصيله ودقائقه وقراءتي ومراجعتي لكل كلمة فيه، أسوة بزملائي أعضاء مكتب التحرير، فإنني أسجل الشكر والتهنئة لمن يهمس المعجم بعملهم وعطائهم، الدكتور محمد فتوح أحمد والدكتور سليمان الشطي والدكتور محمد حسن عبدالله.
والحق أن الإشادة واجبة أيضًا بالآخرين الذين كان لهم فضل كبير في تفاصيل العمل كافة : نهجًا وتنسيقًا وجمعًا وترتيبًا وتحريرًا وفهرسةً وتبويبًا يحق لهم معها أن يفخروا عن جدارة بما قدموه كشركاء كاملين في إنتاج المعجم، وعليهم أن يتذكروا دومًا القيمة الحقيقية لإسهامهم الحيوي في هذا العمل الموسوعي، ويجب أن يتذكر المتعاملون مع المعجم باستمرار، دورهم وأن يقدروه، وأقصد بهم الطباعين المهرة بقيادة رئيس وحدة الإنتاج في مؤسسة جائزة عبدالعزيز سعود البابطين للإبداع الشعري، والعاملين في السكرتارية والحفظ والأرشفة وبناء قاعدة المعلومات، وفي إعداد النسخة الإلكترونية للمعجم، والفنان المبدع الذي قام بعمل التصميم الداخلي والغلاف.
عزيزي القارئ..
الآن بين يديك عدد من المجلدات تضم مستودعًا للسلوك اللغوي والعاطفي والاجتماعي لمجتمعات مختلفة.. متقاربه.. متباعدة، ولسنوات تمتد من 1801 إلى 2008م .. بين يديك معجمٌ يتجاوز رصد الشعراء وجمعهم، إلى مادة خصبة تكشف للباحث كثيراً من جوانب الحياة والوجدان الإنساني.. وإلى جانب تلبية هذا النوع من الحاجيات فإن المعجم يتيح لأجيالنا القادمة فرصًا متجددة لدراسة النصوص انطلاقًا من مكوناتها اللغوية، ويفتح أمام القارئ آفاقًا للتأمل في جملة من المفاهيم والعلاقات والمشاعر والرؤى والقيم الجمالية والأخلاقية التي تشكل مع غيرها منظومة مرجعية للعقلية العربية وثقافتها، ويعنى هذا أن المعجم يعكس صورة ولو جزئية للثقافة العربية متمثلة فيما خَطَّهُ شعراء العربية على مدار قرنين، والتي تنطوي على رؤى ومواقف وتصورات من بعض القضايا في حياتهم كلها على المستويات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية.
وعلى الرغم من أن كثيرًا من أشعار المعجم تفصلها الآن عقود طويلة عنّا فإن تجميعها في مجلداته دليل على تخطيها لتلك العقود ومعايشتها لنا، بل إننا نعيد إنتاجها حينما نتمتع بقراءتها أو نخضعها للبحث والدراسة، ومن هنا تتسرب تلك الافكار والابداعات إلى الأجيال القادمة، وتصبح مرجعاً لمتكلمي العربية، وتشعرهم بالانتماء إلى ثقافة واحدة.
وإذا كان لي من كلمةٍ أخيرة فإني أحث بها أصحاب النيات الحسنة من الباحثين والمهتمين بالشعر وبعلم المعاجم: أن يراجعوا التجربة وأن ينقدوها ويبينوا ما قد يكون بها من تجاوز أو تقصير، فقد سعينا ما وسعنا ولا ندعي الكمال، فالكمال لله وحده، وهو ولي التوفيق.

 

عبدالعزيز السريع