الشعر العربي الحديث

توطئة نقدية*

(1)

      تقدم هذه الموسوعة الفنية المتمثلة في معجم البابطين للشعراء العرب المعاصرين سِيَرًا موثقة ونماذج متنوعة لجميع من أمكن الوصول إليهم ممن يستحقون أن تطلق عليهم صفة الشعر, وهي - من ثم - تتضمن تسجيلاً أمينًا للمادة الشعرية المعاصرة, وتعريفًا دقيقًا بالشعراء , وذخيرة فنية تتيح للجمهرة من نقاد الشعر ودارسيه إلمامًا جيدًا بتضاريس الخريطة الشعرية المعاصرة, وما تعاورها من تيارات ومدارس أدبية.

      وإذا كان المعجم بما يضمه بين دفتيه من مادة شعرية ثرية يتيح تحقيق هذه الأغراض متفرقة أو مجتمعة, فإن هذه التوطئة النقدية تهدف إلى إضاءة الخلفية التاريخية التي استقامت عليها هذه المادة, ورسْم الإطار العام للظروف الثقافية والفنية التي أرهصتْ بها, وتصوير المهاد العام الذي درجت عليه حركة الشعر العربي الحديث, وتخطيط الملامح المشتركة لتجليات هذه الحركة عبر البيئات الإبداعية المختلفة, فلعلنا, على هدْي من هذا وذاك, أن نصل إلى الاقتناع, أو ما يقرب من الاقتناع, بأن الشعر العربي الحديث إن اكتسى في منابته المتنوعة بأردية محلية متفاوتة الأصباغ والألوان, فإنه ـ في التحليل الأخير ـ ينزع منزعاً فكرياً مشتركاً, ويسلك في التطور درجات متقاربة الملامح والقسمات, ثم يصب في تيارات وأنهار فنية تكاد تكون محكومة بقوانين وأعراف تاريخية وجمالية لا يعوزها التناغم والانسجام.

      ومن البدهي أن صفة (الحداثة) التي اقترنت بهذا الشعر منذ بواكير النهضة في مطالع القرن الماضي لا يقصد بها إلى (الحداثة) بمعناها الفني المعاصر, وإنما تشير هذه الصفة إلى حقبة من الزمن ذات حدود خاصة, ومعالم مميزة, وهي الحقبة التي تلت العصور الوسطى وما سبقها, ومن هنا كان طبيعياً أن نرى تلك الصفة التي ميزت مساحة إبداعية معينة تُستخدم ـ في ذات الوقت ـ قرينة للعصر الذي استغرق هذه المساحة, فيقال (العصر الحديث) تمييزاً له عما سبقه من عصور.

      ورغم أن هذا العصر في إطاره العام لا يتجاوز قرابة قرنين من الزمان, وهي فترة قصيرة نسبياً في أعمار آداب الأمم فإنه بحكم ما حفل به من تطورات ثقافية وفنية يعدل قروناً مما سبقه من مراحل في عمر الشعر العربي, وصحيح أن إيقاع التطور في بداية هذا العصر لم يكن بنفس السرعة التي شهدتها أواخره, بل نكاد نقول إن هذا الإيقاع لم يطفر طفرة ذات بال طيلة النصف الأول من القرن التاسع عشر, ولكن ذلك لم يكن راجعاً إلى غياب الشروط الأساسية للنهضة, بقدر ما كان راجعاً إلى أن النهضة كمحصلة قيمية تقتضي وعياً, والوعي يقتضي إدراكاً, وهذا بدوره يحتاج إلى بعض الوقت كي ينتج أثره في البنية الفكرية بمستوياتها المختلفة, بما فيها المستوى الفني.

      ودون اقتحام التفصيلات التي قد تخرج بهذه التوطئة عن غايتها, فان من المرجح ان يكون أبرز هذه الشروط الأساسية التي حددت أوليات النهضة هو ازدياد تفاعل العلاقات السياسية والاجتماعية والثقافية بين الغرب الأوربي والمشرق العربي, وهو التفاعل الذي جرى العرف على اعتبار الحملة الفرنسية من أهم مظاهره, وصحيح أن الدافع إلى هذه الحملة كان غير إنساني بطبيعته, ولكن الصحيح كذلك أنها لم تخل من أثر في وجدان الشعب العربي, وإن يكن أثراً غير مباشر ولا مقصود, فقد اصطحبت الحملة معها جماعة من العلماء والمفكرين الفرنسيين, فأنشأوا في الشرق أول مطبعة, وأصدروا أول صحيفة, وافتتحوا مكتبة عامة, وأقاموا مسرحاً للتمثيل وبعض المدارس, كما أنشأوا في مصر سنة 1798 مجمعاً علمياً على غرار المجمع العلمي الفرنسي كان من أغراضه نشر المدنية, وبعث العلوم والمعارف, ودراسة المسائل والبحوث التاريخية والطبيعية والصناعية, ونشر هذه البحوث في مجلة المجمع التي خصصت لهذه الغاية, ولعل في جوهر هذه الأغراض ما يلقي بعض الضوء على الآثار الثقافية التي يمكن أن تترتب على إنشاء مثل هذا المجمع.

      ويمكن القول بأن الأثر الأكبر لاحتكاك الشرق العربي بالغرب الأوربي عبر الحملة الفرنسية قد تبلور في أنه أظهر العرب على مدى التقدم العلمي والثقافي الذي بلغه الأوربيون, ووضع أمامهم نموذجاً للتطور حاولوا احتذاءه فيما بعد, وأثار فيهم مكامن الدهشة, والدهشة أولى درجات الوعي, وقد قص (الجبرتي) خبر زيارته لبعض مؤسسات الحملة في مصر, وصور مشاعر الاستغراب التي أحسها إزاء بعض التجارب العلمية التي أجريت أمامه, وعقّب عليها بقوله (ولهم فيه أمور وأحوال وتراكيب غريبة ينتج منها نتائج لا يسعها عقول أمثالنا), ولا شك أن شعور أهل الشرق العربي آنذاك بالهوة التي تفصل بين واقعهم الاجتماعي وواقع الفرنسيين ـ وهو ما تشير إليه قالة الجبرتي ـ كان بالغ الأثر في إيقاظ قوى التقدم, لأن وعي الإنسان بذاته بداية نهضته.

      إلى ذلك الوعي الإنساني العام يضاف وعي معرفي تمثل في إدراك قيمة العلوم والمعارف التي ثبت للشرق العربي من واقع الاحتكاك المباشر أنها سر تقدم الغرب وقوته, ومن ثم كان بدء الاهتمام ـ منذ عصر محمد علي ـ بالتعليم على تعدد أصعدته, وبالبعثات العلمية التي كانت ترسل إلى أوربا منذ الربع الأول من القرن التاسع عشر, وكان لها فضل إظهار المبعوثين على أنماط من التفكير والحياة الأوربيين, وهو ما نرى نموذجاً من آثاره فيما كتبه رفاعة الطهطاوي تحت عنوان (تخليص الإبريز في تلخيص باريز), وليس من قبيل المصادفة أن يكون رفاعة, إمام البعثة المصرية إلى فرنسا, واحداً من الرعيل الأول الذي بعث رعشة التجديد في أوصال الشعر العربي إبان القرن التاسع عشر.

      ناهيك عن أن الصحافة الأدبية وإسهامها البارز في تنشيط حركة الترجمة قد أعانت على توفير المهاد الأول لحركة الإحياء في الشعر العربي الحديث, وقد اقترنت بدايات هذه وتلك بالحملة الفرنسية وما كانت بحاجة إليه من ترجمة الوثائق الرسمية والإدارية وبعض الكتب العلمية, وقد نهض بهده الحاجة أولاً جماعة من المستشرقين والمتخرجين في مدرسة اللغات الشرقية التي أنشاها لويس الرابع عشر, ومن أشهرهم المستشرق (فانتور Venture) والمستشرق (جوبير Jaubert), ثم ما لبثت أفواج من الوطنيين أن انضمت إليهم نتيجة إدخال بعض اللغات الأوربية إلى مناهج التعليم, فكان لذلك أثره في توطيد المعرفة بتلك اللغات وتسهيل النقل عنها, كما كان له أثره في ازدياد عدد من أتقنوا فهم الثقافة الغربية ونقلوها إلى العربية ترجمة أو اقتباسا, نخص منهم بالذكر عبدالله فكري وشفيق منصور وفتحي زغلول وجورجي زيدان ونجيب الحداد, وإذا كانت حركة الترجمة قد اتجهت في البداية اتجاها علميا بحتاً, فإنها ما لبثت مع مطالع القرن العشرين أن امتدت إلى كثير من مناطق الإبداع الإنساني, وتوفر كثير منها على ترجمة روائع الشعر الغربي في مختلف لغاته ومذاهبه ترجمة تكاد تقارب الكمال, وتجمع إلى الصياغة الأدبية المشرقة أمانة الوفاء بالنص واستلهام روحه بما لا يجافي الدقة المنهجية.

      * لمزيد من التفصيل فيما أجمله هذا المهاد النقدي يراجع مجلد البحوث الملحق بالمعجم.