(4)

      لقد حاولت بعض الاتجاهات الاجتماعية والفكرية أن تقيم تناقضاً وهمياً بين ما هو موروث قومي وما هو إبداع محلي, ورغم أن هذه المحاولة لم تفلح في تحقيق مبتغاها من تكريس هذا التناقض الوهمي, فإن المعجم الشعري الماثل شاهد حي على تكامل العطاء الشعري العربي من خلال تنوعه, وبرهان صادق على الحوار الخلاق بين الماضي والحاضر, وبين ذاكرة التراث وواعية العصر, ليس فقط بما يتضمنه من نماذج تمثل عديداً من الأجيال الإبداعية المختلفة, وشتيتاً من التيارات الفنية المتباينة, ولكـن ـ أيضاً ـ بما تطرحه تقنية العطاء الشعري الجديد من استثمار مكثف للرموز والشخصيات والإشارات التراثية, وإعادة توظيفها توظيفاً إيحائياً, اعتماداً على مذخورها في الوجدان الجمعي العربي.

      إن للموروث دلالاته التاريخية والاجتماعية والأخلاقية دون ريب, وحين يستغله الفنان على هذه المستويات كلها أو بعضها, فإن علاقته به قد لا تتجاوز النمط التقليدي في علاقة المبدع بموضوعه, ذلك النمط الذي يفترض منذ البدء ثنائية الماضي والحاضر, وأن قيمة ثانيهما لا تقاس إلا بحجم دورانه في فلك الأول قرباً أو بعداً, وقد يعكس الماضي في هذه الحالة (فترة ملحمية) فتكون نماذجها الإيجابية بمثابة المثال الذي يحفز بمجرد رصده إلى الاستلهام والاحتذاء, كما يمكن أن يعكس (فترة مأساوية) تمتزج فيها أصباغ البطولة بأصباغ الانكسار, فينهض تجسيدها في هذه الحالة بوظيفة التنبيه والتحذير, بل والتنفير أيضاً, مادام العمل الأدبي لا يخلو في هذه الحالة من محاكاة الظواهر التراثية السلبية محاكاة هجائية ساخرة. وفي إطار هذه الآليات الفنية متفرقة ومجتمعة, يحسن أن نضع الجهد الدءوب الذي بذلته فيالق الرواد ممن عكفوا على التراث بحسبانه مادة للتشكيل الأدبي, بدءا بمارون النقاش وخليل اليازجي وأبي خليل القباني وفرح انطون, ومروراً بأحمد شوقي وحافظ إبراهيم وخليل مطران وعزيز أباظة وعلي أحمد باكثير, وسواهم ممن حرصوا على معالجة الظاهرة التراثية في نطاق الشعر الغنائي أو في صورتها الدرامية.

      بيد أن الموروث ـ كما أضحى يتصوره الشعر الجديد ـ لم يعد مقصورا على وظائفه الاصطلاحية من حيث هو مادة للمعرفة أو مصدر للاقتداء أو منبع للعظة والاعتبار, بل أصبح ـ فوق ذلك ـ ضربا من الرؤيا الفنية يقوم فيه الحس التراثي بديلاً عن الرصد التاريخي, ويتجلى فيه (ماكان) بمثابة نبوءة أو حدس (بمايكون), كما يتجلى فيه (مايكون) بمثابة تأويل إبداعي (لماكان), بكل ما يترتب على هذا التأويل من خصوصية في الحذف والإضافة والإضمار والتحريف والتفسير, ومن ثم يغدو الجدل بين الماضي والحاضر إلغاء للمواجهة بينهما في وضعهما السكوني الجامد, وينهض (حلول) أحدهما في الآخر عوضاً عن تلك الثنائية التي تفترض الاختلاف في الأصل. وإذا كانت الثنائية تلد المجاز, باعتبار أنه يجمع بين طرفي الصورة الشعرية في وجه ويتركهما متمايزين في وجوه, فإن هذا الحلول لا يكون إلا نتيجة خيال فني قادر على التركيب والتحليل بكل مستوياتهما, وهو من هذا المنظور أمثل الملكات الإبداعية لتغذية القصيدة الحديثة, من حيث هي رؤية غير مباشرة, ثم من حيث هي صياغة رمزية موحية.

      وإذا كان (حلول) الماضي في الحاضر تعبيراً عن وحدة الموروث الثقافي من ناحية, وطريقة في تصوير اللوحة الشعرية الجديدة من ناحية أخرى, فإنه يوميء إلى أثر قد لا يقل عن هذين خطراً, نعنى أثر التقاليد أو الأعراف الشعرية التي تلهم حركة الشاعر الحديث وتوجهه توجيها غير منظور, وهي تقاليد تحمل في ثناياها من عناصر الاستمرار بقدر ما تحمل من عناصر التجدد وإمكانات الإضافة, ومن الجدل الدائب بين الثابت منها والمتغير فيها يكتسب المسار الشعري قدرته على النماء والتطور, وليس مصادفة أن يتمثل بعض اتكاء الشعر العربي المعاصر على الموروث في الاقتباس منه بطريقة مباشرة أو محورة; لأن هذا الاقتباس إن أدى وظيفته باعتباره فلذة في البنية الشعرية, فلم يخل من إشارة إلى وحدة الدائرة التصويرية التي تجمع بينه كموروث وبين سواه من أجزاء العمل الشعري.

      وعلى الرغم من أن الجيل الأول من رواد القصيدة الحديثة كبدر شاكر السياب وصلاح عبدالصبور والبياتي قد عوّلوا كثيرا على هذه الصيغة من صيغ الاقتباس التراثي المباشر أو المحوّر فإنهم في مرحلة تالية قد آثروا عليها صيغة أخرى ربما تفضلها في هذا المقام, وهي الإشارة التراثية, وتتميز تلك الأخيرة بالتركيز والكثافة والاكتناز, كما أنها تنأى عن فضول الاقتباس ومباشرته, وفي نفس الوقت لا يفقدها التركيز طاقة البوح والإثارة, شأن التماعة الضوء, قد تكون سريعة خاطفة, ولكنها تغمر بألقها أبعاد المكان.

      ولأن التفكير بالموروث ضرب من الحلول المتبادل بين الماضي والحاضر, فقد يلجأ الشاعر المعاصر ـ كما سنرى في كثير من النماذج الماثلة عبر هذا المعجم ـ إلى اطّراح بنية الإشارة وتجريدها من هوامشها, والقناعة منها, بمجرد الباعث الذي تنهض عليه أو الغاية الكامنة وراءها بوصفها أهم ما يعني به الشاعر في تلك الحالة, ومن ثم يصبح استغلال الإشارة التراثية نوعا من (الاستلهام) نحس به من خلال نسيج القصيدة وسياقها, كما تتطور وظيفتها بحيث تغدو خلفية وجدانية وفكرية للعمل الشعري, وقد شاع هذا الضرب من الاستلهام الفني للإشارات التراثية على أقلام الجيل الثاني بخاصة, وانعكست تجلياته بوفرة في إبداعات أمل دنقل ومحمد إبراهيم أبوسنة وفاروق شوشة وسعدي يوسف وحسب الشيخ جعفر, هذا بالإضافة إلى استمرار الظاهرة وتجددها في عطاءات من لا يزال يواصل العطاء من السابقين الأولين, نخص منهم: عبدالوهاب البياتي, وأدونيس, وبلند الحيدري.

      وإذا كانت الإفادة من الموروث على هذا النحو قد تمثلت في المعارضة والاقتباس والاشارة الصريحة أو المضمرة, فإن تجارب أخرى قد آثرت التعامل مع (النموذج التراثي) بحسبانه قالباً كلياً تدور من خلاله حركة القصيدة منذ البداية وحتى النهاية, وقد قلنا (النموذج) ولم نقل الشخصية; لأن الشخصية تعبير عن الملامح الفردية الخاصة, وهي لا تتحول إلى نموذج إلا حين تمثل العام من خلال الخاص, والكلي من خلال الجزئي, فإذا حظيت بهذا التحويل تسنّى للشاعر أن يعالجها بالطريقة نفسها التي يعالج بها كل مبدع رموزه, أي بأن يستغل جانب العمومية فيها استغلالا إيحائياً, وفي تلك الحالة تكفل القصيدة لنفسها ـ أولا ـ ما يحمله النموذج التراثي من إسقاطات عصرية, كما يتوفر لها ـ ثانياً ـ ضرب من الحركة الدرامية المتنامية مع تطور النموذج وتحولاته عبر العمل الشعري, ثم إنها تتمتع ـ في التحليل الأخير ـ بقدر من التماسك العضوي والوحدة البنائية لم يكن ليتيسّر من دون توظيف النموذج التراثي بطريقة حديثة.

      وتتنوع مصادر النموذج التراثي في الشعر الحديث ـ كما سنلمح عبر مادة هذا المعجم ـ طبقاً لطبيعة التجربة الشعرية, ثم تبعاً لفلسفة الشاعر في الوعي بجدلية التراثي والمعاصر, وحجم ونوع ثقافته التي تلوّن هذا الوعي, فمن النماذج ما يرتد إلى الموروث الشعبي, ومنها ما يستقيه الشاعر من التراث الديني أو الصوفي, ومنها ما يكون ذا أصل تاريخي, ومنها ما يرجع إلى الأساطير ومذخور اللاشعور الجمعي, كما أن منها ما يستمده الشاعر من معين الثقافة الأوربية في وجهيها الإغريقي والروماني على وجه الخصوص.

      وأيّا كان مصدر النموذج وظروف نشأته الأولى, فإنه في التشكيل الفني لا بد أن يخضع لقدر من التحوير والتدوير يخرج به عن فجاجته وتلقائيته من ناحية, ويستقيم به مع خصوصية التجربة الإبداعية من ناحية أخرى, وقد يحدث هذا التحوير بأن يرصد الشاعر النموذج من الخارج مرة ومن الداخل مرة أخرى, ويكون الفصام بين الوجهين إيحاء بما يعانيه إنسان العصر من أزمة التمزق بين الواقع والمثال, وقد يسلط الشاعر أضواءه على النموذج من زوايا عدة, ويكون اختلاف الزوايا مفضياً إلى اختلاف المنظور, وقد يراوح بين أقنعة متنوعة يسقطها على النموذج ليستبطن من خلالها المخروطات العمودية للنموذج من الداخل, وقد اتكأت على هذه الطرق الثلاث في تشقيق النموذج التراثي أجيال من الشعراء المحدثين, كان منهم في مصر صلاح عبدالصبور (مذكرات الملك عجيب ابن الخصيب) وفي العراق بلند الحيدري (أوديب في رحلة الحروف الصفر), وعلى دربهم سارت فيالق من شعراء الجيل الثاني يأتي في مقدمتهم الشاعر المصري الراحل أمل دنقل (كلمات سبارتاكوس الأخيرة).

      ومع ذلك فان توظيف الموروث لا ينهض شفيعاً لقصور الشاعر أو تقصيره في تمثل التجربة الإبداعية وصياغتها, وهو لا يحقق غايته الفنية ما لم تكن الحاجة إليه نابعة من داخل البنية الشعرية ذاتها, وإذا اقتصر دوره على محض استعراض ثقافة الشاعر كما حدث في بعض نماذج العقدين السادس والسابع فإنه لايعدو أن يكون نمطا من المهارة العقلية التي ليس فيها كبير غناء من الناحية الفنية, وإذا كان (استعراض الثقافة) في رصف الإشارات التراثية خطراً يتهدد جهد الشاعر فقد تفوقه خطورة ظاهرة (الاصطلاح) في تكرار نماذج تراثية وأسطورية بعينها; لأن هذا التكرار يفقدها ما تتميز به من تلقائية العطاء وعفوية التلقي, ويفضي بها إلى حيث تصبح دوائر تعبيرية محدودة الدلالة, أو قوالب مجازية جاهزة يصطلح عليها كل من المبدع والمتذوق نتيجة الدوران والمعاودة, ولعل جمهرة قراء القصيدة الحديثة ما زالت تذكر كيف غلبت في فترة ليست بالبعيدة موجة استخدام الأسطورة التموزية والأسطورة البابلية في بيئات الشعر اللبناني والعراقي بخاصة, و لعلها ـ كذلك ـ مازالت تذكر كيف أن نموذجاً واحداً كنموذج (السندباد) قد تنقل على أقلام كتيبة من المبدعين عبر بيئات إبداعية مختلفة, ومع تحوير بعض سماته بما يسمح له بتحمل مضامين حديثة, ولا ريب أن هذا (الاستطراق) في استخدام الأساطير والنماذج التراثية حريّ بأن يطفيء طاقة البوح فيها, وأن يجردها من فاعليتها الفنية, ويتجاوز بها حد الضرورة إلى حد الضرر, ولنتذكر في هذا المقام مقولة (ريتشاردز): (حينما تصبح الإشارة عادة من العادات, فهي عندئذ تتحول إلى مرض)!!.