صلاح عبدالصبور

1402-1350هـ 1981-1931م

سيرة الشاعر:

محمد صلاح الدين عبدالصبور.
ولد في مدينة الزقازيق (مركز محافظة الشرقية - شرقي الدلتا المصرية) وتوفي في القاهرة.
عاش حياته في القاهرة، وزار عدة عواصم عربية، ومدن غربية.
تلقى تعليمه قبل الجامعي بمدارس الزقازيق، وحصل على الشهادة التوجيهية (1947) ثم التحق بكلية الآداب - جامعة فؤاد الأول (القاهرة) فتخرج في قسم اللغة العربية (1951).
بدأ حياته العملية مدرسًا للغة العربية، مثلما عمل صحفيًا بمؤسسة «روز اليوسف»، ومؤسسة «الأهرام».
انتقل إلى وزارة الثقافة، فعمل بإدارة التأليف والترجمة والنشر، ثم رئيسًا لتحرير مجلة السينما والمسرح، ونائبًا لرئيس تحرير مجلة الكاتب، ثم عمل مستشارًا ثقافيًا بسفارة مصر بالهند (1977 - 1978)، فرئيسًا للهيئة المصرية العامة للكتاب حتى وفاته فجأة إثر استفزاز نفسي أثر في قلبه.
كان عضوًا بالمجلس الأعلى للثقافة، والمجلس الأعلى للصحافة، ومجلس اتحاد الكتاب، ومجلس أكاديمية الفنون، واتحاد الإذاعة والتلفزيون.
شارك في «جماعة الأمناء» التي كونها أمين الخولي، كما شارك في تكوين «الجمعية الأدبية» مع عدد من نظرائه من دعاة التجديد.
نال جائزة الدولة التشجيعية عن مسرحيته الأولى: «مأساة الحلاج» 1965، ووسام العلوم والفنون من الطبقة الأولى عام 1965، ومنحته جامعة المنيا (وسط الصعيد)
الدكتوراه الفخرية.
صدرت دوريات عدة عقب رحيله خصصت لإبداعاته: مجلة المسرح (أكتوبر 1981) - مجلة فصول (أكتوبر 1981) وعلى صدر الدورية عبارة: «الشاعر والكلمة». كما
أصدرت الهيئة المصرية العامة للكتاب: «وداعًا فارس الكلمة» - قصائد إلى صلاح عبدالصبور (1982).
أطلقت مدينة الإسكندرية اسم الشاعر على مهرجانها الشعري الأول.
قدمت عن شعره، ومسرحه الشعري، ونقده رسائل جامعية.

الإنتاج الشعري:
- صدر للشاعر الدواوين التالية: «الناس في بلادي» - دار الآداب - بيروت 1957، «أقول لكم» - دار الآداب - بيروت 1960 (الطبعة الخامسة - دار الشروق - القاهرة 1982)، «أحلام الفارس القديم» - دار الآداب - بيروت 1964 (الطبعة الرابعة - دار الشروق - القاهرة 1981)، «تأملات في زمن جريح» - دار الآداب - بيروت 1970 (دار الشروق - القاهرة 1981)، «شجر الليل» - دار الآداب - بيروت 1972 (الطبعة الثالثة - دار الشروق - القاهرة)، «الإبحار في الذاكرة» - دار الشروق - بيروت1983، نشرت الدواوين الستة مع كتاب «حياتي في الشعر» في مجلد واحد من «الأعمال الكاملة» لصلاح عبدالصبور - الهيئة المصرية العامة للكتاب - القاهرة 1993، نشرت له قصائد
مختارة في ديوان بعنوان: «رحلة في الليل» - الهيئة العامة لقصور الثقافة - القاهرة 1970، ونشرت له قصائد في صحف عصره: «حياتي وعود» - مجلة الثقافة - القاهرة
1/12/1952، «انعتاق» - مجلة الثقافة - القاهرة 15/12/1952، «عودة ذي الوجه الكئيب» - الآداب - بيروت - يونيه 1954، «إلى جندي غاضب» - الآداب - بيروت - يناير 1957، «عذاب الخريف» - الآداب - بيروت - يناير 1958، «أحزان المساء» - المجلة - القاهرة - مارس 1961، «الطفل العائد» - الكاتب - القاهرة - أبريل 1961، «المرآة والضمير» - الأهرام - القاهرة 30/9/1966، «الضحك» - الأهرام - القاهرة 14/4/1967، أشعارهم عن الربيع: «الكواكب» - القاهرة 20/9/1969، «إنه قمري يا أصدقاء» - مجلة الإذاعة - القاهرة 4/10/1969، «عندما أوغل السندباد وعاد» - مجلة العربي - الكويت - أكتوبر 1979، وكتب خمس مسرحيات شعرية: «مأساة الحلاج» - دار الآداب - بيروت 1965، «مسافر ليل» نشرت في مجلة المسرح - القاهرة - يوليو وأغسطس 1969 - طبعت في دار الشروق - بيروت 1986، «الأميرة تنتظر» نشرت في مجلة المسرح - القاهرة - أكتوبر ونوفمبر 1969 - طبعت في كتاب: دار الشروق - بيروت 1986، «ليلى والمجنون» نشرت في مجلة المسرح - القاهرة - فبراير 1970 - (طبعت بالقاهرة - دار الشروق - وبيروت 1986)، «بعد أن يموت الملك» - دار الشروق - بيروت 1983.

الأعمال الأخرى:
- نشر ثلاث قصص قصيرة: «قصة رجل مجهول» - مجلة الثقافة - القاهرة 8/12/1952، «الشمعة» - مجلة الثقافة - القاهرة 29/12/1952، «فدَّان لله» - مجلة صباح الخير - القاهرة 18/12/1958، وكتب اثني عشر كتابًا بين السيرة الذاتية والمتابعات النقدية، والقضايا الحضارية: «أصوات العصر» - دراسات نقدية - القاهرة 1960، «ماذا يبقى منهم للتاريخ؟» - القاهرة 1961، «حتى نقهر الموت» - بيروت 1966، «قراءة جديدة لشعرنا القديم» - بيروت 1968، «حياتي في الشعر» - بيروت 1969، «علي محمود طه» - دراسة واختيار - بيروت 1969، و«تبقى الكلمة» - بيروت 1970، «رحلة على الورق» - القاهرة 1971، «قصة الضمير المصري الحديث» - القاهرة 1972، «النساء حين
يتحطمن» - القاهرة 1976، «كتابة على وجه الريح» - القاهرة 1980، «على مشارف الخمسين» - القاهرة 1983، وترجم الأعمال الإبداعية الآتية، عن الإنجليزية: «سيد
البنائين» (مسرحية) تأليف الكاتب النرويجي هنريك إبسن، «حفل كوكتيل» (مسرحية) تأليف الشاعر الإنجليزي ت. س. إليوت، «جريمة قتل في الكاتدرائية» (مسرحية) تأليف الشاعر الإنجليزي ت. س. إليوت، كما ترجم عن لوركا الإسباني، وسومرت موم الإنجليزي، وكتب المترجم له نحو ستمائة مقالة، نشرتها له الصحف المصرية والعربية، وجمع بعض منها في: (الأعمال الكاملة - الهيئة المصرية العامة للكتاب) عن السينما، والمسرح، وفنون السرد، والشعر وقضاياه، وشارك في أكثر من ستين تحقيقًا صحفيًا، وندوة. يعد صلاح عبدالصبور أحد بناة القصيدة الحديثة ومن مؤسسي قصيدة التفعيلة إلى جانب السياب ونازك الملائكة. وقصيدته: «شنق زهران» - المبكرة - علامة على انعطافة للقصيدة العربية نحو التصوير الواقعي، كما تعد قصيدته: «مذكرات بشر الحافي» علامة على الشخصية التراثية واستدعائها قناعًا لإفضاء الشاعر برؤيته للكون والحياة، أما مسرحياته الشعرية فإنها - في التقويم النقدي - تعد أول وأهم إضافة إلى هذا النوع (الشكل) الأدبي بعد مسرحيات شوقي وعزيز أباظة، ليس لأنه اتخذ شعر التفعيلة أساسًا لإدارة الحوار بين شخصيات المسرحية وحسب، وإنما لأنه حقق درامية الحدث، وأدرك معنى تعدد الأصوات، واصطنع وسائل تشويق غير تقليدية، وأكسب «الرؤية» جدية عالية دون جهامة أو جفاف، وتعد مسرحياته تأسيسًا للمسرح السياسي في الأدب العربي الحديث.
كتب عن صلاح عبدالصبور: محمود أمين العالم - عزالدين إسماعيل - لويس عوض - رجاء النقاش - محمد مصطفى بدوي - محمد فتوح أحمد - محمد النويهي - جابر
عصفور.. وغيرهم.

مصادر الدراسة:
1 - رجاء النقاش: ثلاثون عامًا مع الشعر والشعراء - دار سعاد الصباح - القاهرة - الكويت 1992.
2 - نشأت المصري: صلاح عبدالصبور الإنسان والشاعر - الهيئة المصرية العامة للكتاب - القاهرة 1983.
3 - أرشيف الأهرام - ملف رقم 6185 - خاص: صلاح عبدالصبور.
4 - الدوريات: حمدي السكوت ومارسدن جونز: صلاح عبدالصبور: ببليوجرافيا - فصول: مجلة النقد الأدبي - الهيئة المصرية العامة للكتاب - القاهرة - اكتوبر 1981.

أحلام الفارس القديم

لو أننا كنا كغصنَيْ شجره
الشمسُ أرضعت عروقنا معا
والفجر رَوَّانا ندًى معا
ثم اصطبغنا خضرةً مزدهرهْ
حين استطلنا فاعتنقنا أذرعا
وفي الربيع نكتسي ثيابنا الملونه
وفي الخريف، نخلع الثياب، نَعرى بَدَنا
ونستحمّ في الشتا، يدفئنا حُنوُّنا
لو أننا كنا بشطّ البحر موجتينْ
صُفِّيتا من الرمال والمحارْ
تُوِّجتا سبيكةً من النهار والزبدْ
أسلمتا العنان للتيارْ
يدفعنا من مهدنا لِلحْدنا معا
في مشيةٍ راقصةٍ مدندنه
تشربنا سحابةٌ رقيقهْ
تذوب تحت ثغرِ شمسٍ حلوةٍ رفيقه
ثم نعود موجتينِ توأمينْ
أسلمتا العنان للتيارْ
في دورةٍ إلى الأبدْ
من البحار للسماءْ
من السماء للبحارْ
لو أننا كنا نُجَيمتين جارتينْ
من شرفةٍ واحدةٍ مطلعنا
في غيمةٍ واحدةٍ مضجعنا
نضيء للعشاق وحدهمْ وللمسافرينْ
نحو ديار العشق والمحبّه
وللحزانى الساهرينَ الحافظينَ موثق الأحبّه
وحين يأفل الزمانُ يا حبيبتي
يدركنا الأفولْ
وينطفي غرامنا الطويل بانطفائنا
يبعثنا الإله في مسارب الجِنان دُرّتينْ
بين حصًى كثيرْ
وقد يرانا مَلَكٌ إذ يعبر السبيلْ
فينحني، حين نشدّ عينه إلى صفائنا
يلقطنا، يمسحنا في ريشه، يعجبه بريقنا
يرشقنا في المفرق الطهورْ
لو أننا كنا جناحَيْ نورسٍ رقيقْ
وناعمٍ، لا يبرح المضيقْ
محلِّقٍ على ذؤابات السفنْ
يبشر الملاحَ بالوصولْ
ويوقظ الحنينَ للأحباب والوطنْ
منقاره يقتات بالنسيمْ
ويرتوي من عَرَق الغيومْ
وحينما يجنُّ ليل البحر يطوينا معًا معا
ثم ينام فوق قِلْعِ مركبٍ قديمْ
يؤانس البحّارةَ الذين أُرهقوا بغربة الديارْ
ويؤنسون خوفَه وحيرتهْ
بالشدوِ والأشعارْ
والنفخ في المزمارْ
لو أننا
لو أننا
لو أننا، وآهِ من قسوة «لو»
يافتنتي، إذا افتتحنا بالمنى كلامَنا
لكننا
وآهِ من قسوتها «لكننا»
لأنها تقول في حروفها الملفوفة المشتبكهْ
بأننا ننكر ما خَلَّفتِ الأيامُ في نفوسنا
نَوَدُّ لو نخلعهُ
نود لو ننساهْ
نود لو نعيده لرحم الحياه
لكنني يا فتنتي مُجرِّبٌ قعيدْ
على رصيف عالمٍ يموج بالتخليط والقِمامه
كونٍ خلا من الوسامه
أكسبني التعتيمَ والجهامه
حين سقطتُ فوقه في مطلع الصبا
قد كنت فيما فات من أيامْ
يا فتنتي محاربًا صلبًا، وفارسًا همامْ
من قبل أن تدوس في فؤادي الأقدامْ
من قبل أن تجلدني الشموسٌ والصقيعْ
لكي تُذِلَّ كبريائيَ الرفيعْ
كنت أعيش في ربيعٍ خالدٍ، أيّ ربيعْ
وكنت إن بكيتُ هزّني البكاءْ
وكنت عندما أحسّ بالرثاءْ
للبؤساء الضعفاءْ
أودّ لو أطعمتُهم من قلبيَ الوجيعْ
وكنت عندما أرى المحيّرين الضائعينْ
التائهين في الظلامْ
أودّ لو يحرقني ضياعهم، أودّ لو أُضيءْ
وكنت إن ضحكتُ صافيًا، كأنني غديرْ
يفترُّ عن ظل النجوم وجهُه الوضيءْ
ماذا جرى للفارس الهُمَامْ؟
انخلع القلبُ، وولى هاربًا بلا زمامْ
وانكسرت قوادم الأحلامْ
يا من يدلّ خطوتي على طريق الدمعة البريئه
يا من يدل خطوتي على طريق الضحكة البريئه
لكَ السلامْ
لك السلام
أعطيكَ ما أعطتنيَ الدنيا من التجريب والمهاره
لقاءَ يومٍ واحدٍ من البكاره
لا، ليس غيرَ «أنتَ» من يعيدني للفارس القديمْ
دون ثمنْ
دون حسابِ الربح والخساره
صافيةً أراكِ يا حبيبتي كأنما كبرت خارج الزمنْ
وحينما التقينا يا حبيبتي أيقنتُ أننا
مفترقانْ
وأنني سوف أظل واقفًا بلا مكانْ
لو لم يُعدني حبك الرقيق للطهاره
فنعرف الحبَّ كغصني شجره
كنجمتين جارتينْ
كموجتين توأمينْ
مثل جناحَيْ نورسٍ رقيقْ
عندئذٍ لا نفترقْ
يضمّنا معًا طريقْ
يضمنا معًا طريقْ

مذكرات الصوفي بشر الحافي

حين فقدنا الرضا
بما يريد القضا
لم تنزلِ الأمطارْ
لم تورقِ الأشجارْ
لم تلمعِ الأثمارْ
حين فقدنا الرضا
حين فقدنا الضَّحِكا
تفجرت عيوننا بُكا
حين فقدنا هدأةَ الجنْبِ
على فراش الرضا الرحْبِ
نام على الوسائدِ
شيطانُ بغضٍ فاسدِ
معانقي، شريكُ مضجعي، كأنما
قرونه على يدي
حين فقدنا جوهر اليقينْ
تشوّهت أجّنة الحبالى في البطونْ
الشَّعرُ ينمو في مغاور العيونْ
والذقن معقود على الجبينْ
جيلٌ من الشياطينْ
جيل من الشياطينْ
إحرص ألاَّ تسمعْ
إحرص ألا تنظرْ
إحرص ألا تلمسْ
إحرص ألا تتكلمْ
قفْ!
وتعلَّقْ في حبل الصمت المبرمْ
ينبوع القول عميقْ
لكن الكفَّ صغيرهْ
من بين الوسطى والسبَّابة والإبهامْ
يتسرّب في الرمل كلامْ
ولأنك لا تدري معنى الألفاظِ، فأنت تناجزني بالألفاظْ
اللفظ حجرْ
اللفظ مَنيَّهْ
فإذا ركَّبتَ كلامًا فوق كلامْ
من بينهما استولدت كلامْ
لرأيت الدنيا مولودًا بشعًا
وتمنيت الموتْ
أرجوكْ
الصمتَ
الصمتْ!
تظل حقيقةٌ في القلب توجعه وتضنيهِ
ولو جَفَّت بحار القول لم يبحر بها خاطرْ
ولم ينشر شراع الظن فوق مياهها ملاّحْ
وذلك أنَّ ما نلقاه لا نبغيهْ
وما نبغيه لا نلقاهْ
وهل يرضيك أن أدعوك يا ضيفي لمائدتي
فلا تلقى سوى جيفه؟
تعالى الله، أنت وهبتنا هذا العذاب وهذه الآلامْ
لأنك حينما أبصرْتَنا لم نَحلُ في عينيكْ
تعالى الله، هذا الكون موبوءٌ، ولا برْءُ
ولو ينصفنا الرحمن عجَّلَ نحونا بالموتْ
تعالى الله، هذا الكون، لا يصلحه شيءُ
فأين الموتُ، أين الموتُ، أين الموتْ؟
شيخي «بسّامُ الدين» يقولْ
«يا بشرُ اصبرْ
دنيانا أجمل مما تذكرْ
ها أنت ترى الدنيا من قمة وجدِكْ
لا تبصر إلا الأنقاض السوداءْ»
ونزلنا نحو السوق أنا والشيخْ
كان الإنسان الأفعى يجهد أن يلتف على الإنسانِ
الكركيْ
فمشى من بينهما الإنسانُ الثعلبْ
عجبًا،
زَورُ الإنسان الكركي في فَكّ الإنسان الثعلبْ
نزل السوق الإنسان الكلبْ
كي يفقأ عينَ الإنسان الثعلبْ
ويدوس دماغ الإنسان الأفعى
واهتزّ السوق بخطوات الإنسان الفهدْ
قد جاء ليبقر بطن الإنسان الكلبْ
ويمصّ نخاع الإنسان الثعلبْ
يا شيخي بسام الدينْ
قل لي «أين الإنسانُ الإنسانُ؟»
شيخي بسام الدين يقولْ
«اصبر سيجيءْ
سيهلُّ على الدنيا يومًا ركْبُهْ»
يا شيخي الطيبْ!
هل تدري في أيّ الأيام نعيشْ؟
هذا اليوم الموبوء هو اليوم الثامنْ
من أيام الأسبوع الخامسْ
في الشهر الثالث عشرْ
الإنسانُ الإنسانُ عَبَرْ
من أعوامْ
ومضى لم يعرفه بَشَرْ
حفر الحصباء، ونامْ
وتغطى بالآلامْ

أغنية

لينتثرْ فتاتُ لحمنا على جناح عيشنا الغريبْ
ولنتغرّبْ في قفار العمر والسهوبْ
ولننكسرْ في كل يومٍ مرتينْ
فمرةً حين نقابل الضياءْ
ومرةً حين تذوب الشمس في الغروبْ
فقد أردنا أن نرى أوسعَ من أحداقنا
وأن نطول باليد القصيرة المجذوذة الأصابع
سماءَ أمنيّاتنا
الله يا وحدتي المغلقة الأبوابْ
الله لو منحتني الصفاءْ
الله لو جلست في ظلالك الوارفة اللفَّاءْ
أجدل حبل الخوف والسأمْ
طول نهاري
أشنق فيه العالم الذي تركته ورا جداري
ثم أنام غارقًا، فلا يغوص لي
حُلُمْ
حين تصير الرغبات أمنياتْ
لأنها بعيدة المطال في السما
ثم تصير الأمنيات وَهْما
لأنها تقنّعت بالغيم والضبابْ
وهاجرت مع السحابْ
واستوطنت أعاليَ الهضابْ
ثم يصير الوهم أحلاما
لأنه مات، فلا يطرق سور النفس إلا حين يظلم المساءْ
كأنه أشباح ميتين من أحبابنا
ثم يصير الحلم يأسًا قاتمًا وعارضًا ثقيلا
أهدابنا
أثقل من أن ترى
وإن رأت فما يرى العميانْ؟
أقدامنا
أثقل من أن تنقل الخطى
وإن خطت تشابكت، ثم سقطنا هزأةً كبهلوانْ
نصرخ، يا ربنا العظيم، يا إلهنا
أليس يكفي أننا موتى بلا أكفانْ
حتى تذلّ زهونا وكبرياءنا؟
حزني ثقيلٌ فادحٌ هذا المساءْ
كأنه عذاب مصفّدين في السعيرْ
حزني غريب الأبوينْ
لأنه تَكوَّن ابنَ لحظةٍ مفاجئه
ما مخضته بطنْ
أراه فجأةً إذا يمتدّ وسط ضحكتي
مكتملَ الخلقة، موفور البدنْ
كأنه استيقظ من تحت الركامْ
بعد سُباتٍ في الدهورْ
لقد بلوت الحزنَ حين يزحم الهواء كالدخانْ
فيوقظ الحنينَ، هل نرى صحابنا المسافرينْ
أحبابنا المهاجرينْ
وهل يعود يومنا الذي مضى من رحلة الزمانْ؟
ثم بلوت الحزن حين يلتوي كأفعوانْ
فيعصر الفؤاد ثم يخنقه
وبعد لحظةٍ من الإسار يعتقه
ثم بلوت الحزن حينما يفيض جدولاً من اللهيبْ
نملأ منه كأسنا، ونحن نمضي في حدائق التذكّراتْ
ثم يمر ليلنا الكئيبْ
ويشرق النهار باعثًا من المماتْ
جذورَ فرحنا الجديبْ
لكنّ هذا الحزن مسخٌ غامضٌ، مستوحشٌ، غريبْ
فقل له يا ربِّ، أن يفارقَ الديارْ
لأنني أريد أن أعيش في النهارْ
يا ربنا العظيم، يا معذبي
يا ناسجَ الأحلام في العيونْ
يا زارعَ اليقين والظنونْ
يا مرسلَ الآلام والأفراح والشجونْ
اخترتَ لي،
لشدّ ما أوجعتتي
ألم أخلص بعد،
أم ترى نسيتني؟
الويل لي، نسيتني
نسيتني
نسيتني

توافقات

يعتريني المزاج الرمادي، حين تصيرُ السماءُ، رماديّةً، حين تذبلُ
شمسُ الأصيل، وتهوي على خنجرِ
الشجرِ، النقط الشفقية تنزفُ
منها، تموت بلا ضجّةٍ، ويواري
أضالعها العاريات الترابُ الرميمْ
يعتريني المزاج الترابي، حين تصيرُ
السماء ترابيّةً، حين يصبح مرجُ
السماءِ جديبًا، كصحراءَ تنحلّ فيها
النجومُ رمالاً، وينحلُّ حتى يذوبَ
ببطن الهيولى القديم الترابُ
السقيمْ
يطلع الصبحُ، يطلع فيَّ صباحٌ،
فلا باهرَ الضوء، أو مشرقَ
القسماتِ، ولكنه فارغٌ، الكلامُ
محارٌ رخيصٌ، وقلبيَ يفرغُ
من حزنه الغسقيّ لكي يشربَ
الضجرَ الماسخ الطعم، موجٌ
من اللحظات البطيئة يحملني
مثلما يحمل النسر والدود أو
يحمل الزهرَ والفطر والعشبَ
والريحَ، أو يحمل العشق والقتلَ
أو يحمل الذكريات الغبيّة، يلقي
بها في ظلام شطوط المساءِ
السديمْ
هنا أنا سائرٌ في الفصول، عليلٌ
صحيحٌ، كئيبٌ، وأخشى الكآبه
حينًا، وتمضي الحياة تعيد مداراتها،
والشموس النجوم تعيد استداراتها، وروحي تعيد ولاداتها واحتضاراتها
والشموسُ النجومْ
والشموسُ النجوم الأهلّة، يا زمنًا فاترًا، يا حياةً تجرّب كيف تقلد
صورتها في الزمانِ البعيد القديمْ
ها أنا أستدير بوجهي إليك، أيا زمنًا ليس يوجدُ بعدُ، أيا زمنًا قادمًا من وراءِ
الغيومْ
ها أنا أستدير بوجهي إليك، فأبكي لأنَّ انتظاريَ طال، لأن انتظاري يطول،
لأنك قد لا تجيء، لأن النجوم تكذب ظني، لأن كتابَ الطوالع يزعم أنك تأتي إذا اقترنَ
النسر والأفعوان، لأن الشواهد لم تتكشّف، لأن الليالي الحبالى يلدنَ ضحىً مجهضًَا،
ولأن الإشارات حين تجيءُ
تجيء الينا الإشارات من مرصدِ
الغيب يكشفُ عن سرها
العلماء الثقات، تقول
انتظار عقيم!
انتظار عقيم!
انتظار عقيم!