وإذا كان الشاعر محمد محمود الزبيري قد اكتسب هذا القدر من التطّور في كتابته الشعرية من دراسته المحدودة في القاهرة وتأثره بأجواء التحديث التي كانت في عنفوان اندفاعاتها,فإن زميله الشاعر محمد عبده غانم كان قد سبقه إلى الانغمار بأجواء لاتقل تطوراً واندفاعاً في مجال الثورة الشعرية, فقد كان أول طالب يمني يلتحق في منتصف الثلاثينيات للدراسة في الجامعة الامريكية في بيروت لكن الملاحظ ان الشاعر غانم بطبيعته الهادئة وباحتكامه إلى العقل استطاع أن يكبج جماح الثورة على الطابع التقليدي المحافظ للقصيدة واختار منذ بداياته الأولى في أواخر الثلاثينيات وحتى أواخر الثمانينيات أن تكون قصائده كحياته خالية من الانفعالات مليئة بالحب والإيثار, وحب الإبداع وإيثار القصيدة في شكلها وبنائها التراثي, مع تأثر واضح بما قدمه شاعر لبنان الكبير الأخطل الصغير من أصداء وأنداء.

حمرة الجلّنار من وجنتيك _________________________

وبياض الأقاح من عارضيكِ _________________________

ونفيس الشراب يرقص في الكأ _________________________

س ألمْ يعصروه من شفتيك? _________________________

وذكي العبير هل فاح من بيـ _________________________

ـن الخزامى أم ملتقى نهديك? _________________________

قد سألنا الضياء من أين يأتيـ _________________________

ـنا فسرعان ما أشار إليك?(5) _________________________

      كم تذكرنا هذه الأبيات بقصيدة (الصبا والجمال) لشاعر الهوى والشباب والتي صارت على كل قلب ولسان بعد أن غناها الفنان العظيم محمد عبدالوهاب, وقد خلا شعر الأستاذ غانم بعد ذلك من أي أثر للشعراء الذين عاصروه أوسبقوه, وتحول في فترة لاحقة إلى كتابة الشعر المسرحي أو المسرح الشعري وأنجز فيه أعمالاً جديرة بالتنويه, ومن قصائد الأربعينيات هذا المقطع من قصيدة طويلة يصف بها الحرب العالمية الثانية:

النار تخطف والجحافل تزحف _________________________

والجو يرعد والبسيطة ترجف _________________________

وعلى الرؤوس من الدخان سحابة _________________________

ضربت سرادقها فلا تتكشف _________________________

ملأ المآقي والأنوف سخامها _________________________

وروائح البارود منها تشغف _________________________

وبدا بوابلها الرصاص فما تني _________________________

تلوي بأرواح الكماة وتعصف _________________________

من فوقها زبر الحديد تطير في _________________________

عرض الفضاء وبالصواعق تقذف _________________________

من كل مبسوط الجناح كأنه _________________________

نسر هوى من حالق يتخطّف _________________________

وبكل ناحية يئنّ مضرّج _________________________

وضع الأكف على جراح تنزف _________________________

حفّت به الأشلاء فوق نجيعه _________________________

لا مَنْ يعالجه ولا مَنْ يسعف _________________________

وعلى التلاع الحمر يقدم مسرعاً _________________________

بطل ليقتحم الصفوف مقذّف _________________________

والموت يكمن خلف كل قذيفة _________________________

خرجت إليه من الخنادق تعزف(6) _________________________

      ما يزال كل شيء في القصيدة يتحرك في نطاق مايسمى بالمدرسة الإحيائية, الصورة جزء لا يتجزأ من الاستعارة والتشبيه التقليديين, وتركيب الجملة الشعرية لغويا, مايزال قائما على الطريقة المتعارف عليها عند القدامى وعند الإحيائيين بخاصة. والجديد في هذه القصيدة يكمن في محاولة الشاعر الاقتراب من مشكلات عصره وقضاياه وفي الرغبة العنيدة الهادفة إلى كسر حاجز العزلة الذي حكم على الناس والشعر وكل شيء في البلاد أن يبقى أسير التقاليد وأن يبدأ الشاعر بالنسيب ويخلص إلى المديح أو إلى الهجاء أو الوصف شأن شعراء الجاهلية ومن سار على نهجهم في عصور الانحطاط.

- 2 -

      وإذا كان الشاعران محمد محمود الزبيري ومحمد عبده غانم قد أسهما في الانتقال بالقصيدة من مناخ التلقيدية الصارمة إلى المناخ المنفتح ونجحا في الاقتراب بها أشواطاً من الاتجاه الرومانتيكي فإن النقلة الأسلوبية في تقنية القصيدة الحديثة لم تبدأ نشوءها وتبلورها إلا من خلال ثلاثة شعراء استجابت إبداعاتهم الأولى للتطور الذي أدرك القصيدة العربية في عدد من أقطار الأمة الواحدة واتسمت تجاربهم بالانحياز التام إلى الجديد بوصفه حياة جديدة للشعر وللشاعر معا وبالخروج بالقصيدة من دائرة الأغراض التلقيدية المتوارثة. والشعراء الثلاثة هم: (أحمد محمد الشامي) و (إبراهيم الحضراني) و (لطفي جعفر أمان), وكان الأخير قد ذهب إلى السودان في بعثة دراسية هيأت له الاقتراب من أجواء الساحة الأدبية التي كانت ما تزال تتنفس أريج الشعر الرومانتيكي المتألق كما عبرت عنه موهبة الشاعر الفنان الراحل (التيجاني يوسف بشير), الذي تعرف (لطفي) على إبداعه الشعري وتأثر به وبكاه بقصيدة منشورة في ديوانه الأول (بقايا نغم) وعنوانها (الصوفي المعذب) ومنها:

أنا هذا.. وأنت في القبر ثاو _________________________

لا شقاء ولالهيب شكاة _________________________

كنت مثلي تضيق بالعالم الرحـ _________________________

ب وتهفو مضرج النفثات _________________________

كنت مثلي تعيش في عالم الرو _________________________

ح ولكن بالدمع والحسرات _________________________

أين مني أنت? وأين أنا اليوم _________________________

م كلانا في عالم الأموات(7) _________________________

      في هذا السياق الرومانتيكي (الصوفي) إذا جاز التعبير حاولت قصيدة (لطفي أمان) أن تشق طريقها نحو المعاصرة التي لم تتوقف عن تحديث المضمون أو بناء الجملة الشعرية.

      وإنما تعدتها إلى نظام المقاطع ومنها نظام التفعيلة. وكان مع زميله الشاعر (أحمد محمد الشامي) في طليعة الشعراء اليمنيين الذين قادوا حركة التجديد في بنية القصيدة والخروج بها من النمط التقليدي في مغامرة مبكرة تتقاطع زمنياً مع بدايات (بدر شاكر السياب), و(نازك الملائكة) وغيرهما من أنصار الاجتهاد في تحديث الشكل في القصيدة العربية. ومن بدايات (لطفي) ذات النظام المقطعي:

أنا من أنا, نغم خافت _________________________

وأغنية أخلصت للشجن _________________________

وليدة حب ولكنها _________________________

وقد عاقها الحب بنت المحن _________________________

ليال من السعد مرت بها _________________________

سراعاً.... ومرت كأن لم تكن _________________________

وباتت يعربد فيها الشقاء _________________________

وها هي ذي في يديه تئن _________________________

دعيني أعش في الخيال البعيد _________________________

وأشرب خمر الهوى من أنيني _________________________

أعانق طيفك عند المنام _________________________

وأعرض إن لحت لي في اليقين _________________________

عشقتك روحاً طليق الصبا _________________________

وعفتك جسماً غداً يستبيني _________________________

وأنت وإن نلت فيك الحياة _________________________

جمال.. وشوك.. دعيني. دعيني(8) _________________________

      هذا السياق اللغوي المترف بمفردات استحضرها الشاعر من قاموس الرومانتيكيين العرب (على محمود طه) و (محمود حسن اسماعيل), (والتيجاني يوسف بشير), وهذا الانشغال الواضح برموزهم وإشاراتهم كل ذلك جعل من السهل تصنيف الشاعر ووضع بداياته في المكان الصحيح من مسيرة الشعر العربي في هذا القطر الذي تفرد ـ بين بقية الأقطار ـ بمعاناته وبتحمله لأعباء العزلة الثقيلة, ولئن بدت ملامح التجديد لعدد من النقاد محدودة الآفاق فإنها قد أعطت لهؤلاء الشعراء الحق في أن يدّعوا بأنهم نجحوا في إنقاذ الشعر في اليمن من مرجعية التقليد والاجترار وستبقى لتجاربهم الإبداعية الأولى قيمتها التاريخية الكبرى, ويكفي أن ظروف الجدب بكل ما أحاط بها من عنفوان التقليدية الفكرية والأدبية لم تمنع هذا الجيل من أن يكون صوته الشعري تعبيرا عن روح المرحلة ومتطلباتها.

      وبالرغم من أن(لطفي جعفر أمان) قد واكب مرحلة التحديث الشعري خارج اليمن, إلاّ أن بداياته لم تكن بعيدة عن بدايات زميليه (الشامي)و(الحضراني) اللذين لم يبرحا أرض اليمن سواء في بداياتهما الرومانتيكية أو تلك التي تطمح إلى تغيير شكل القصيدة.... وللشاعرين (الشامي)و (الحضراني) قصيدة مشتركة تكشف عن توهج البداية والرغبة في التجاوز من (الإحيائية) إلى (الإيحائية) إذا جاز لنا أن نختار للرومانتيكية هذا الوصف الأخير:

تلفت الشعر إلى الشاعر _________________________

يسأل عنه أين ولّى وسار _________________________

وأين رب النغم الساحر _________________________

أين هزاري ياترى أين طار? _________________________

وأي روض فاتن زاهر _________________________

في ساحه بات يناجي مناه _________________________

يحمل عبء القدر القاهر _________________________

ظمآن يشكو لليالي صداه _________________________

أظنه اليوم يغني وحيد _________________________

يشدو فيرتد إليه غناه _________________________

لاسامع من حوله يستعيد _________________________

كأنه زنبقة في فلاه _________________________

يبيت في الليل يناجي النجوم _________________________

فينصت الليل ويصغي القمر _________________________

وتارة يطغى عليه الوجوم _________________________

فيفرغ الكأس ويلقي الوتر _________________________

عد أيها الشاعر عد إننا _________________________

في جنة الشعر وأزهى رباه _________________________

نعبث بالدهر ونرجي المنى _________________________

ما أعجب الشعر وأحلى مناه(9) _________________________

      لقد فتحت هذه النظرة الجديدة إلى الشعر, بوصفه تعبيراً ذاتياً يحتدم في الصدور, الأبواب واسعة تجاه العملية الإبداعية, وصار الشعر من خلال الطبيعة وذات الشاعر تعبيراً عن أرقى العواطف وأعمقها وأصبح صدى صادقاً للإحساس والاتصال بالحياة والأشياء.

      لم يعد الشاعر محايداً يصف التجربة ولا يعانيها, يحدس بالمعنى ولا يحترق بتفاصيله وهروبه الواضح من عقلنة الصور السمعية والبصرية لا يعني التنكر لحركة الواقع بقدر ما يعني الالتحام الداخلي بها عبر الذات تارة وعبر المكان والزمان تارات... وهذا المنحى الذي يؤكد الاقتداء بما كان قد أنجزه الشعراء ـ آنذاك ـ في عدد من الأقطار العربية المتقدمة يجعل الشعر في هذه البلاد يؤسس أولى مراحله التجديدية التي اقتربت من معمارية القصيدة الجديدة في تكويناتها الأولى:

أنا لا أنظم شعراً _________________________

فلقد أنسيت أوزان القصيد _________________________

إنما أنثر أشواقاً ودمعاً _________________________

شوق قلب مغرم _________________________

وفؤاد مؤلم.... _________________________

ودموعاً عصرتها لهفة الروح _________________________

الحزين _________________________

عندما تلتثم الشمس _________________________

بأكفان المغيب _________________________

وتضم الكون أستار المغيب _________________________

ويغني الليل لحن الموت _________________________

في سمع الوجود... _________________________

أذكر الماضي وانسى _________________________

حاضري(10) _________________________

      في هذا المقطع الجديد من قصيدة للشاعر (أحمد محمد الشامي), وفي قصائد أخرى, للحضراني ولطفي أمان, وتتمثل الخطوات الأولى الرامية إلى الانتقال من القصيدة البيتية (العمودية) إلى القصيدة الجديدة القائمة على نظام التفعيلة... ولاريب أن هذه البدايات قد فتحت للشعراء الشبّان في الخمسينيات آفاقاً جديدة لكتابة الشعر في إطاره الحديث... صحيح أن عدداً من المبدعين الذين ظهروا في الخمسينيات قد واصلوا كتابة القصيدة البيتية باقتدار وبقدر كبير من المعاصرة الفنية والموضوعية: أمثال (جراده)و(صبره) إلاّ أن الجيل الجديد من الشعراء التي شغلوا الساحة الأدبية بعد ذلك قد كانوا من أنصار التجربة الشعرية الجديدة التي سعت وتسعى إلى تجديد بنية القصيدة لغة وشكلاً وإلى اكتشاف نظام مغاير في الكتابة الشعرية يتأسس على التراث من جهة ويجاوزه من جهة ثانية.