ولا تخلو الصورة ـ صورة الشعر طبعاً ـ في هذه المرحلة من الأمل في حياة جديدة مشرقة وفي قدرة الشعب على سحق أعدائه من الطغاة والمحتلين, لاسيما حين كانت الأنظار تتجه نحو الساحة الجنوبية من البلاد وتقرأ في عيون المظلومين هنا وهناك علامات التحدي والإصرار. وفي هذه المنحى وفي مزج ذكي بين قصيدة المدح والقصيدة الوطنية يتوهج هذا النص الحماسي ملتهب الألفاظ والمعاني, وهو للشاعر (عبدالرحمن الأمير) من أشهر شعراء الخمسينيات, ويرجع تأريخ النص إلى 3/9/1357هـ, ومما جاء فيه هذه المقاطع الغنية بمفردات من معجم المرحلة العام والخاص:ـ
كفكف الدمع وانطلق غير صاح _________________________
|
كالأعاصير يانذير الكفاحِ _________________________
|
إحبس الأنّة الكئيبة وانقض _________________________
|
لهيبا على متون الرياح _________________________
|
احبس الآه (أيها الوطن الأم) _________________________
|
ومزق جرثومة الأشباح _________________________
|
إن أبناءك المغاوير في الساح _________________________
|
هتاف (تفديك بالأرواح) _________________________
|
المنايا في ظل مجدك أحلى _________________________
|
في فم الحر من ضريب اللقاح _________________________
|
ودوي الرصاص والقاصفات الهوج _________________________
|
أشهى من رنة الأقداح _________________________
|
وطني أنت قوة الله في كل _________________________
|
فؤاد أعددته للساح _________________________
|
جرحك الثائر العميق أغاريد _________________________
|
المنايا وتمتمات الصفاح _________________________
|
لك ياموطني وهبت حياتي _________________________
|
وشبابي وثورتي وجماحي _________________________
|
لك حبي ومنك يا مهد آبائي _________________________
|
الميامين استمد طماحي _________________________
|
قسماً ماغفت بصدري جراح _________________________
|
راعفات تكلمي ياجراحي _________________________
|
وطني أنت روعة الحق في قلبي _________________________
|
وتسبيحة الهوى في صداحي _________________________
|
ما عرفت الحياة إلاّ أعاصير _________________________
|
المنايا على رؤوس الرماح _________________________
|
قل (لجنبول) لن ترى _________________________
|
في الميادين منهزم _________________________
|
كل حر قذفته _________________________
|
للوغى ثابت القدم _________________________
|
(وحدة الشعب) همه _________________________
|
وبآياتها اعتصم _________________________
|
يعرف الساح أننا _________________________
|
أمة السيف والقلم _________________________
|
أيها المؤمنون بالوطن الغالي _________________________
|
بمجد الآباء والأجداد _________________________
|
أيها المؤمنون بالوحدة الكبرى _________________________
|
أفيقوا فالسيف حران صادي _________________________
|
منبت المجد والعروبة أضحى _________________________
|
دمعة العار في جفون الرقاد _________________________
|
طهروا بالدماء أشبال قومي _________________________
|
مشرق البعث والهدى والرشاد _________________________
|
طهروا مهد يعرب يابنيه _________________________
|
بالدم الحر من دعاة الفساد _________________________
|
أطلقوها صواعقاً تسحق البغي _________________________
|
وتبني قواعد الاتحاد _________________________
|
يا (هزبر الجنوب) فالوحدة الكبرى _________________________
|
نشيد في ثغر كل جواد _________________________
|
والشمال الأبي لن يتخلى _________________________
|
عنك يا بن الجنوب يوم الجلاد _________________________
|
ثورة المجد ليس تعرف حداً _________________________
|
بين أبناء أمتي وبلادي(17) _________________________
|
إن الأمر في هذا المستوى من الكتابة الشعرية لا يخص الشعر نفسه, أو بعبارة أخرى, لا يخص الحقيقة الفنية وحسب وإنما يشكل أيضاً حقيقة أخرى تأريخية وطنية, فيه ماهو وثيقة, وماهو مغامرة شعرية على مستوى اللغة والإيقاع. ولا تعني الإشارات السالفة أن شعر المديح في اليمن قد اتخذ هذا النهج المناويء والمتذمر من الأوضاع والتحايل على الأنظمة الجائرة, فقد نشأ بجوار هذه النماذج نوع سخيف من الشعر المادح امتلأ بالأكاذيب المقززة وكان في تقليديته أعجز من أن يتمثل صورة الأنموذج السلفي لقصيدة المديح الموغلة في القدم وأعجز من أن يستنسخ أساليب شعر المديح المعاصرين الذين حاولوا منافسة وسائل الإعلام الحديثة هذه التي تفوقت في طرائق المدح والتزلف على كل إمكانيات وقدرات الشعراء المادحين عبر العصور.
إذا كان الإحيائيون والرومانتيكون من شعراء اليمن قد ساروا على درب أشقائهم الشعراء المتقدمين في الأقطار العربية فإن الأمر لم يختلف كثيراً مع شعراء القصيدة الجديدة الذين أفادوا في هذا المجال من التجارب الأسبق في حقل التجديد الشعري وخرجوا ـ على تباينهم ـ بهذه الحصيلة التي تندرج كلها تحت مسمى الشعر الجديد وفيها ما يتصل بالنماذج الخمسينية وما يرقى إلى نماذج الستينيات والسبعينيات وهو ما يؤكد الترابط الروحي الحميم بين أبناء الأمة العربية الواحدة مهما تباعدت بهم الديار أو اختلفت بهم مراحل النمو الثقافي والمعرفي.
ومن أوائل الشعراء اليمنيين الذين أدركوا جوهر التحول في الأداء التعبيري للقصيدة المعاصرة, الشاعر (عبده عثمان محمد) الذي رافق (صلاح عبد الصبور) و (أحمد حجازي) في بداياتهما الشعرية الأولى عندما كان طالباً في القاهرة في منتصف الخمسينيات واستطاع مع (محمد انعم غالب) و (ابراهيم صادق) و (علي عبدالعزيز نصر) أن يستوعبوا ظاهرة الدورة التطويرية في القصيدة العربية من خلال الاحتكام إلى قوانين الإبداع الذي لا يكون كذلك إلاّ إذا رفض التكرار وآمن بتجاوز الشائع والمألوف... وإذا كانت الكتابات الشعرية لهؤلاء قد أفصحت في أوقات ماضية عن طموح كامن في تغيير الأحلام الشعرية فإن الحماس للعمل السياسي والانخراط في الحياة العملية قد ساعدا على قطع صلتهم بالشعر, باستثناء (عبده عثمان) الذي ظل على صلة وثيقة بالشعر وإن في فترات متفرقة ومتباعدة... ومن بداياته الأولى... القصيدة القصيرة التالية:
لو أن عاصفاً بساعة المطرْ _________________________
|
أو فارساً بموكب عبر _________________________
|
لما التوى في الدرب جيد شاعر _________________________
|
ولا تلفت الحجر _________________________
|
وإنما عابرة روائح الحقول والشجر _________________________
|
وغنوة من الغجر _________________________
|
تجيب كل سائل عن الغجر بأنها من الجبل _________________________
|
لا تهب المحدقين _________________________
|
سوى ابتسامة سريعة وتعبر السبيل _________________________
|
رامية رداءها الطويل _________________________
|
على التلال تحت خصرها النحيل _________________________
|
حاملة هدية الحقول _________________________
|
تيناً سفرجلاً ليمون _________________________
|
كم يثقل الغصون _________________________
|
وكم وكم تخجله في السوق صيحة العيون(18) _________________________
|
عنوان القصيدة (فتاة صبر) وصبر بفتح الصاد وكسر الباء ـ جبل عظيم ـ مزروع بالخضرة وبالقرى الصغيرة التي تمد مدينة تعز بالفواكه والخضروات والقات, ومن المفارقات الطريفة أن نساء هذه القرى كن إلى وقت قريب يشتغلن ببيع المحصولات الزراعية نيابة عن الرجال الذين يشتغلون بالفلاحة ولا يغادرون القرى إلاّ للضرورة.. والقصيدة على المستوى الفني بداية واضحة لتغلب الشكل المتطور على الكتابة الشعرية الجديدة وعلامة للاقتدار الفائق في استخدام اللغة لخلق مجموعة من التلاوين والصور التي تجمع بإيجاز شديد بين المكان والزمان والإنسان.
|