هكذا تكاد قصة تجديد الشعر في اليمن تكون هي نفسها قصة التحديث المنجز على مستوى الحياة الاجتماعية والسياسية للشعب نفسه وتكاد بواكير التحديث الأولى في الكتابة الشعرية تتطابق بوضوح مع بواكير مماثلة في الحياة... كان على الشاعر المبدع في اليمن أن يدرك أن صورة القصيدة العربية قد تبدلت, وأن الذائقة الشعرية في حالة تبدل دائم وبوتيرة سريعة لا تتناسب مع التطور التلقائي الذي طرحته مراحل التطور من قبل.... وعندما بدأت استجابته لهذا التبدل كان يدرك أن النماذج الأولى التي يخرج بها إلى الناس في بلاده لا تكون مقبولة ومستساغة من جمهور عرف الشعر في إطاره التأريخي... وفي التزام التعابير والتشبيهات التقليدية التي وصلت إليه عبر العصور لكنه لم يتردد ولم يتراجع ولو كان قد فعل شيئاً من ذلك لأحبط انتقالة ضرورية لا ترتبط بالشعر وحده ولا بالآداب وحدها وإنما بمستويات أخرى في الحياة كان لا بد لها من أن تتبدل وتتحول وتأخذ مسارها التاريخي هبوطاً وصعوداً.

      ولذلك كله فقد ظل الشعر, وسائر الفنون الأدبية يراوح في مواقع الريادة لا يبرحها إلى بداية الستينيات عندما شهدت اليمن التحول التأريخي الأكبر المتمثل في الثورة اليمنية (سبتمبر ـ أكتوبر) التي أطاحت بالنظام الكهنوتي الإمامي وطهرت البلاد من دنس الاحتلال الأجنبي وبسقوط الإمامه وخروج الاحتلال سقطت كل المزاعم والدعاوي المعيقة للتحديث في شتى المجالات ونال الشعر قدراً كبيراً من التغيرات العميقة سواء في الأشكال الموروثة أو الجديدة... ولم تظهر هذه التغيرات فجأة فقد احتاجت إلى زمن كاف تجسدت معه في واقع الحياة مجموعة من التحولات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية ساعدت على الاقتراب من الموضوعات الجديدة... كما أن أصوات المدافع التي واكبت النضال الوطني في الدفاع عن الثورة وتحرير الوطن من الاحتلال قد تركت آثارها على جسد القصيدة الستينية وجعلتها تقترب من الصرخات الحماسية ومن دقات الطبول التي تسوق الأبطال إلى ميادين النزال.

      في شعر تلك المرحلة تكاد ـ حسب تعبير أحد النقاد ـ تشم رائحة البارود وتستمع إلى أزيز الرصاص, فقد اشتبك الشعب مع أعدائه في صراع حاد وعنيف, وكان الهدف الكبير للمناضلين وللشعر في وقت ألاّ يعود الشعب مجدداً ليقبع في أسر الزمن القديم ويسلم رقبته للجلادين وحراس التخلف وقد نجح الشعر في بلورة أبعاد القضية واستحضار طقس المقاومة في استلهام جموع الشعب لكن حظه من القدرات الجمالية والفنية ظل محدوداً إن لم يكن معدوماً وهذا نموذج صارخ من شعر تلك المرحلة:

إلى السلاح _________________________

إلى السلاح _________________________

دوّى النفير _________________________

انتشرت على جوانب الشمس الجراح _________________________

يكاد يلفظ الأنفاس _________________________

يختفي تحت العباءة الصباح _________________________

فقاتلوا.... _________________________

(أيلولكم) مجنونة من حوله الرياح _________________________

المجد للأحرار... _________________________

للمقاتلين... _________________________

الموت (للوشاح) _________________________

الموت (للوشاح) _________________________

(جنكيز خان) والمغول قادمون _________________________

الأهل والديار والبنون _________________________

غداً سيعدمون _________________________

إن لم نعد السور والخنادق _________________________

ونشرع البنادق _________________________

سترتدي المدينة السواد _________________________

ستغرق النساء في الحداد _________________________

سيرجع الفساد _________________________

الليل... والإرهاب... والسجون _________________________

سيرجعون _________________________

إن لم نقف على الأبواب... في الجبال... في المداخل ___________________

نقطع رأس كل حية على حدودنا _________________________

نحفظ للبلاد فجرها.. نقاتل _________________________

نكتب بالدماء بالجراح _________________________

وثيقة الصباح _________________________

إلى السلاح _________________________

إلى السلاح(19) _________________________

      وإذا كانت السياسة قد أكلت الجانب الأكبر من الشعر في عقد الستينيات فإن شعر السبعينيات والثمانينيات يكاد يختلف اختلافاً جوهرياً عن الشعر الذي عرفه اليمن في العقود السابقة فقد استقرت الأوضاع السياسية والاقتصادية نسبياً ورغم قيام نظامين متناقضين في هذا القطر العربي الواحد فإن الحركة الإبداعية قد بقيت واحدة تسعى في مناخ الانفتاح الشامل على العالم بأسره إلى تطوير الرؤية التحديثية وصياغة أشكالها الجديدة المستجيبة لبواعث التغيير وما تطرحه في مجال الإبداع من رؤى وعوالم وأشكال.

      ويلاحظ أن اليمن لم تشهد التنابذ والاختلاف اللذين سادا بين أنصار الأشكال الشعرية في عدد من الأقطار العربية, ولم تعرف في أي وقت حالة من التنافر الظاهر بين القصيدة البيتية والقصيدة الجديدة أو تلك المسماة بالنثرية والتي اصطلحنا على تسميتها بالأجد.. فقد تعايشت الأشكال وكانت البلاد الخارجة من ظلام القرون بحاجه إلى كل الأنماط والأشكال الإبداعية.. فما كان قديماً وتقليدياً ضمن الجديد المعاصر في مفهوم المبدعين المنتمين إلى بعض الأقطار العربية المتقدمة يعتبر جديداً أوحديثاً في مفهوم أبناء هذه البلاد التي بدأت المعارك الأدبية فيها ساخنة وحادة حول (المنفلوطي) و(الرافعي) و(شوقي) و(حافظ) و(مطران) باعتبار هؤلاء الكتاب والشعراء خارجين على مفهوم الكتابة النثرية والشعرية كما كان قد هبط بهم ورسم قوانين انحطاطها عصر الاجترار الأخير.

      في مناخ خارج من قعر هذا الواقع المتحجر يغدو الفارق الجوهري, بين حديث وجديد أو جديد وأجد أمر غير ذي بال وحتى بعد صعود الأجد من من الجديد بدلالاته الجمالية المكثفة بقي الصراع معدوما أو كالمعدوم فالشروط المتوخاة لمن يكتبون الشعر في هذه البلاد ألا يكون شعرهم المكتوب قادراً على تمثل القيم الجمالية وأن يكون صادقاً ونابعآً من النفس فلا تكون القصيدة البيتية (العمودية) نظماً خالياً من الإبداع ولاتتنافى مع نظام التركيب الذي امتازت به الجملة العربية وأن لا تخلو من الأصالة التي تعني الإبداع, ولا تتنافى مع التركيب الذي امتازت به الجملة العربية وأن لا تخلو من التصوير الفني الذي هو مادة الشعر الأولى في كل العصور.

      ولعل الدارس المتتبع لشعر السبعينيات والثمانينيات في اليمن يدرك أن الشعر في هذه البلاد قد قطع شوطاً واسعاً في مضمار التحديث, ورغم الاحتراسات الواردة في هذا المجال فإن الجديد الشعري بأشكاله المختلفه يوشك أن يكون هو نمط الكتابة الشعرية السائدة والمألوفة لدى الموهوبين وغير الموهوبين وهو الأمر الذي أدى إلى تضاؤل الاهتمام بالشعر وإلى ظهور حالات من عدم استيعاب الطاقات الإبداعية التي يكتنزها هذا النوع الخالد من الإبداع.

      وإذا كنا قد ألمحنا في الصحفات السابقة إلى أهم التغيرات النوعية في مسار القصيدة المعاصرة في اليمن ابتداء بالنموذج الإحيائي ثم الرومانتيكي وصولاً إلى النموذج الخارج على نظام البيتية فإن الإشارة الأخيرة إلى النموذج الأحدث أو الأجد سيعطي للصورة اكتمالها ويضع القارئ أمام إطار عام للتجربة الشعرية المعاصرة في مراحلها المتتابعة.. وأول ما تجدر الإشارة إليه في هذا الصدد أن الشعراء الموهوبين في هذا الاتجاه لم يذهبوا إليه بحثاً عن المغايرة أو انطلاقاً وراء الوهم الشكلي المحض وإنما وجدوا انفسهم أسرى هذه المعاناة بحثاً عن مناخات أكثر جدة للصورة والمعنى.

      وأول مايلاحظ أن شعراء القصيدة الأجد في اليمن لا ينتمون إلى جيل واحد إذا كان مفهوم الأجيال يعتمد على التقسيمات الشائعة, جيل الخمسينيات , الستينيات, السبعينيات ...إلخ, وإنما هم خليط من شعراء العقود الثلاثة. وإذا كان هناك اختلاف فيما بينهم فإن هذا الاختلاف يتجلى في أن عدداً منهم يراوح بين كتابة قصيدة التفعيلة وكتابة النص الأجد وإن كان جيل الثمانينيات وربما التسعينيات أكثر إقبالاً على تبني الجديد ورفض الوقوع في غواية المألوف وأنساقه حتى بعد أن يتمكنوا من امتلاك أدواته. وهو عكس مايذهب إليه بعض الشعراء الذين يحاولون كتابة المألوف من الشعر فإذا ضلوا طريقهم إليه وعجزوا عن مجاراته وقعوا في براثن كتابة الخواطر النثرية موهمين أنفسهم أولاً وقراءهم ثانياً أنهم يكتبون شعراً مغايراً لما عجزوا عن كتابته وامتلاك قواعد إبداعه. وقد لا تخلو خواطرهم تلك من صورة بديعة أو معنى خلاّب إلاّ أن ما يكتبون لا يدخل في مجال الشعر ولا يمت إليه من قريب أو بعيد.

      إن جيل القصيدة الأجد هنا في اليمن كما هو في عدد من الأقطار العربية يتألف من عدد من المبدعين الحقيقيين الذين لا يهربون من الوزن والقافية بوصفها قيداً يتطلب معرفة وثقافة ودراية, وهم لا يصطدمون بالتعامل مع نظام التفعيلة بوصفه مدخلاً آخر إلى كتابة القصيدة الموزونة لكنهم يهربون من التقليد ويختارون كتابة القصيدة في فضاء رحب خال من القواعد التي تفرضها الذاكرة لا الحياة, والمحاكاة لا اللغة, والمسايرة لا الشعر, وهذا الأجد من الشعر الذي يكتبه هؤلاء الشعراء ليس بديلا عن القصيدة (البيتية) ولا هو بديلا عن قصيدة (التفعيلة) وإنما هو مستوى آخر من الشعر يضاف إليهما, وإمكانية جديدة يدخلها الشعراء طواعيه للبحث عن خصوصية لا تمت بصلة القربى المباشرة إلى أي شكل من أشكال القصيدة في كافة عصورها.

      نحن إذن مع النص الأجد إزاء مستوى من الكتابة الإبداعية الجديدة يفرض نفسه ويفرض معه أسلوباً جديداً للتعامل مع اللغة وطريقة تركيب الجملة وبناء الصورة وما يترتب على ذلك من ظهور ذائقة فنية متحررة من سيطرة القواعد الكلاسيكية, وفي اليمن التي دخلها الجديد ـ بفضل الثورة ـ من أوسع الأبواب, ارتبط اسم الشاعر (عبدالرحمن فخري) منذ محاولاته الأولى بقصيدة (الأجد) وقد أعلن نفسه ممثلاً لها وداعياً إلى كتابتها. وشهدت بداية السبعينيات ميلاد النماذج الجديدة الأولى لما كان يسمى حينئذ بقصيدة النثر وقد استقبلها الجمهور القاريء في اليمن ـ يومئذ ـ بقدر من الدهشة والفتور الأمر الذي دفع بالشاعر إلى أن يخوض معارك نقدية ضارية تجاه كل قصيدة ينشرها لكنه من موقف الواثق بنفسه وفي هدوء المبشر بمقدم الأجد الشعري أذاع قصائده للناس ثم جمعها بعد ذلك في ديوان أسماه (نقوش على حجر العصر), وكانت قصائده مفاجئة للقاريء العربي لا تساويها سوى مفاجأة الصمت الطويل الذي امتدت فترته إلى ما يقرب من عشرين عاما أمضى الشاعر معظمها في الخارج حيث سافر إلى الولايات المتحدة ليعمل ضمن وفد بلادنا في منظمة الأمم المتحدة. وفي تلك الأجواء كأنه وجد نفسه تحت تأثيرات متناقضة للقصيدة الأوربية والقصيدة الأمريكية فضلاً عن القصيدة العربية التي دخلت مرحلة تأسيسية جديدة.