افتتاحية الطبعة الأولى

الحمد لله..

      الحمدُ للهِ الذي هَدانا لهذا, وماكُنّا لِنَهْتديَ لولا أَنْ هدانا الله..

      وصلاة وسلاما على رسوله المصطفى الذي عرف بالفصاحة والبيان, واشتهر بحبه للشعر, وتذوقه له, وإثابته عليه. ولعل في موقفه صلى الله عليه وسلم من كعب بن زهير عندما جاء معتذرا عما بدر منه بقصيدته التي مطلعها:

بانت سعاد فقلبي اليوم متبول _________________________

متيَّم إثرها لم يُفد مكبول _________________________

      لعل في موقفه المعروف منه, وخلعه عليه بردته الشريفة ما يكشف عن مدى حبه صلى الله عليه وسلم للشعر, وتقديره للشعراء.

      ورضوان الله على صحابته الكرام الذين سمعوا الشعر, وطربوا له, وحثوا على دراسته وحفظه, فهذا عمر بن الخطاب يقول لأبي موسى الأشعري: (مُرْ مَنْ قِبلك بتعلم الشعر, فإنه يدل على مكارم الأخلاق وصواب الرأي ومعرفة الأنساب), وهذا عبدالله بن عباس حبر هذه الأمة يروى شعر عمر بن أبي ربيعة في المسجد الحرام إعجابا بشاعريته, وتقديرا لفنه.

      فلا عجب أن تبارى الرواة والأدباء في حفظ الشعر وروايته, ولا عجب أن تنافسوا في تأليف الكتب التي تتناول طبقات الشعراء, وتعرّف حتى بالمقلين أو المجهولين منهم, أو التي تسجل مختارات من عيون الشعر العربي في شتى فنونه وأغراضه. فمن كتب الطبقات والتراجم:

      طبقات فحول الشعراء لابن سلام الجمحي (ت 231 هـ).

      الشعر والشعراء لابن قتيبة (ت 276 هـ).

      طبقات الشعراء لابن المعتز (ت 296 هـ).

      معجم الشعراء للمرزباني (ت 384 هـ).

      يتيمة الدهر للثعالبي (ت 429 هـ).

      ومن كتب المختارات: الأصمعيات, والمفضليات, وكتب الحماسة لأبي تمام, والبحتري, وابن الشجري, وغيرهم, وكتب الأمالي, والمجالس, وكتاب الأغاني لأبي الفرج الأصفهاني وعشرات غيرها.

      بل لا عجب أن كان الشعر هو عماد اللغويين الأساسي في تأليف المعاجم, ودراسة قواعد اللغة, حتى أصبح لفظ الشاهد اللغوي إذا أطلق ينصرف إلى شواهد الشعر وحدها, وحتى أصبح اللغوي يمدح لكثرة محفوظاته الشعرية كابن دريد الذي مدحه أبو الطيب اللغوي بقوله: وكان أحفظ الناس, وأوسعهم علما, وأقدرهم على الشعر, وقال عنه الخطيب البغدادي: وكان يقرأ عليه دواوين العرب فيسابق إلى إتمامها ويحفظها.

      فامتدادا لهذا الاحتفاء الواضح بالشعر أبي الفنون وقمة الإبداع العربي وبالشعراء العرب, واستمراراً لأعمال الأدباء التي دارت حول الشعراء, واحتفظت لنا بنماذج من أشعارهم, جاء معجم البابطين للشعراء العرب المعاصرين الذي نضعه بين أيديكم الآن والذي يعد حلقة في سلسلة إصدارات مؤسسة جائزة عبدالعزيز سعود البابطين للإبداع الشعري, وأول عمل موسوعي تتولى المؤسسة صناعته وتأليفه بطريقة ابتكارية لم يسبق إليها تقوم على الجمع الميداني بواسطة شبكة واسعة من المندوبين, ومن خلال الاتصال المباشر بالشعراء, واستكتابهم سيرهم الذاتية, واختيارهم بأنفسهم نماذجهم الشعرية التي يرونها أفضل ما يمثل فنهم الشعري.

      وإذا كان ثمة من ميزة لهذا المعجم عن غيره من المعاجم وكتب الطبقات التي أشرت إليها سالفًا فهي أنه أشمل وأجمع, حيث ضم تراجم ومختارات للشعراء العرب داخل وخارج الوطن العربي, ولم يقصر جهده على منطقة جغرافية دون أخرى, ولم يتدخل في معلومات السيرة الذاتية, بل ترك للشعراء كتابة سيرهم بأنفسهم, واختيار أشعارهم التي تمثلهم, وقد اقتصر جهد جهازنا الفني على توحيد النمط.. وإزالة الزوائد من السير الذاتية حيث اكتفت بالمعلومات الضرورية وأخذت من الشعر الذي اختاره الشاعر ما يتفق مع المعايير العامة ويتسع له الحيز..

      ولست أريد أن أتحدث عن مدى الجهد الذي بذل لإتمام هذا العمل, ولا عن أوجه الإنفاق الكثيرة التي صاحبت إنجازه, فليس أصعب على الإنسان من حديثه عن نفسه, وإنما أترك هذا العمل بين أيدي الأدباء والنقاد ليشهدوا هم له, كما شهد هو لنفسه بما التزمه من منهج دقيق, وسار عليه من خطة محكمة, وما وفره من مادة لم يسبق توفيرها لا في القديم ولا في الحديث.

      كما لا أريد أن أوجه الشكر لأحد باسمه من فريق العمل الذي تولى التخطيط للمشروع, وتنفيذه ـ فجميعهم يستحقون الثناء, وكل فرد منهم أدى دوره بإخلاص وتفان حتى اكتمل هذا المعجم, واستوى على سوقه.

      ومع هذا فإن مجلس الأمناء الأول الذي خطط للمشروع, وراقب تنفيذه وتابع خطواته منذ البداية وحتى ما قبل صدوره بقليل يستحق التنويه والإشادة للجهد الوافر الذي بذله, وأذكر علي وجه الخصوص جهود الأستاذ الدكتور محمد زكي العشماوي, والأستاذ الدكتور محمد مصطفى هدارة, والأستاذ الدكتور علي الباز أعضاء مجلس الأمناء السابق, تلك الجهود الخيرة التي نشكرها ونضعها في موضعها من الاعتبار والاحترام, أما الأستاذ الجليل المرحوم الدكتور يوسف خليف, فإننا نذكر اسمه مقرونا بالأسف.. فقد تمنينا أن يكون بيننا ليشهد ميلاد المعجم الذي بذل من أجله الكثير.. ندعو الله جلت قدرته أن يسكنه فسيح جناته, فقد كان رجلاً فاضلاً وكان من أعلام الثقافة في وطننا العربي الكبير..

      وأخيرا أعبر عن سروري البالغ لوضع مؤسستنا اللبنة الأولى في بناء التواصل بين أجيال الشعراء, وعن سعادتي الغامرة بهذه النخبة من شعراء المعجم, وأعتبرني بهذا قد حققت خاطرا طالما راودني, وأحييت أملا كان يخالج نفسي حينما أخلو بها.

      لقد حرصت المؤسسة ـ بعد مناقشات, واسعة في مجلس الأمناء وهيئة المعجم واللجان الاستشارية المختلفة ـ أن لا يكون للذوق الخاص أو للاتجاه الفني أو المفاضلة والتمييز مكان في معايير اختيار المشاركين من بين المتقدمين, بل كان الحرص أن يسجل المشهد الشعري العربي بكل ملامحه وتضاريسه وألوانه واتجاهاته, معتبرا ذلك مطلبا لابد أن يلبيه المعجم لصالح الحركة الشعرية العربية ولصالح الشعراء العرب والمهتمين بقضايا الشعر العربي ونقده.

      وإنه من تحصيل الحاصل القول بأن النماذج المختارة للشاعر قد لاتكون معبرة تعبيرا كافيا عن تجربته وقيمته الفنية لكنها تعطي مؤشرا لابد منه, وللقاريء المهتم بالاستزادة بعد ذلك, أن يسعى للحصول على مجمل إنتاج الشاعر أو بعض ذلك الإنتاج في سوق الكتاب, فقد عرَّف المعجم, من خلال سيرة الشاعر, بدواوينه الشعرية ومؤلفاته وما كتب عنه.. لقد سعى معجم البابطين للشعراء العرب المعاصرين لجميع الشعراء على اختلاف مستوياتهم وأعلن عبر كل الوسائل ومنها الاتصال الهاتفي واللقاء الشخصي, فإن أخفق في تحقيق الكمال فإن الكمال لله وحده ولا أحد يجرؤ على ادعائه.. لكننا بذلنا الجهد ما وسعنا ذلك والحمد لله.

      وفي النهاية فإنني أطلب المعذرة من الشعراء الذين كاتبونا, ولم ترد أسماؤهم ضمن شعراء المعجم, إما لأن نماذجهم الشعرية لم تتطابق مع معايير الاختيار التي وضعها مجلس أمناء المؤسسة وهيئة المعجم, أو لعدم كفاية ما أرسلوه من نماذج, أو لنقص المعلومات عنهم, أو لتأخرهم في الكتابة إلينا, وموعدنا مع هؤلاء أو بعضهم في الطبعة الثانية من المعجم بعد أن قر رأي المؤسسة على إنشاء هيئة دائمة لشؤون المعجم, والعمل على استدراك ما قد يكون ند عن فريق العمل, وتحديث المعلومات أولا فأولا.

      والله يوفقنا, ويسدد خطانا, ويجعل ثوابنا متصلا بعد انقطاع أعمالنا باحتسابه ـ تعالى ـ هذا العمل من العلم الذي يُنتفع به.

      إنه سميع مجيب.

عبدالعزيز سعود البابطين